تحقيقات وحوارات
"زيادة الإجور.. عجز الموازنة.. الإصلاح الاقتصادى " ثلاثى مرعب يهدد بنشر الفوضى فى تونس
تصاعدت حدة الاحتجاجات والإضرابات الشعبية التي تشهدها تونس في الآونة الأخيرة من أجل المطالبة برفع مستويات الأجور، خاصة في القطاع العام، وكان آخرها احتجاجات بعض العاملين في القطاع التعليمي، في 5 ديسمبر الجاري، والتي سبقها قيام الاتحاد التونسي العام للشغل بتنظيم إضراب واسع في نوفمبر الماضي، وذلك بعد أن جمّدت الحكومة زيادة مقررة لأجور 150 ألف من موظفيها، مهددًا بالتصعيد وتنظيم إضراب آخر في يناير المقبل. وعلى ما يبدو، فإن الحكومة تتعرض لضغوط مزدوجة، إذ أنها تحاول تلبية المطالب الشعبية التي قد يترتب عليها اتساع عجز الموازنة، وفي الوقت نفسه تضطر لتأجيل زيادة الأجور العامة لاحتواء عجز الموازنة في الأجل القصير على أقل تقدير. لكن على الأرجح لن تلجأ الحكومة لتبني الخيار الثاني في ظل رغبتها في كسب الثقة الدولية حول إجراءات الإصلاح الاقتصادي التي نفذتها مؤخرًا.
إجراءات متعددة:
تضع الحكومة على قمة أولوياتها حاليًا تنفيذ العديد من إجراءات الإصلاح الاقتصادي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي في البلاد، من أبرزها احتواء عجز الموازنة المتزايد منذ عام 2011، حيث وصل إلى ذروته في عام 2017 بنسبة 5.9% مقارنة بمستويات تقل بالنصف في الأعوام الخمسة التالية على 2011، بينما تستهدف تقليص العجز المالي إلى 3.9% في العام المقبل.
ومنذ بداية العام الجاري، رفعت الحكومة أسعار الوقود أربع مرات، كان آخرها في سبتمبر الماضي، عندما قامت بزيادة سعر لتر البنزين بنسبة 4% إلى 1.985 دينار (67 سنتًا أمريكيًا)، كما أقرت أيضًا في موازنة عام 2017 زيادات ضريبية ورفع أسعار الخدمات خاصة الكهرباء.
وفي هذا الإطار، تهدف الحكومة إلى ضغط نفقات أجور القطاع العام لتصل إلى 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 مقارنة بـ14.5% في عام 2017، وذلك بعد أن تزايدت قيمة الأجور العامة في الموازنة لمستويات غير مسبوقة من 2.74 مليار دولار عام 2011، إلى 4.6 مليار دولار عام 2017. ومن المتوقع أيضًا أن تتزايد نفقات الأجور وفق مشروع ميزانية الدولة لعام 2019 إلى نحو 5.88 مليار دولار.
وفيما يتعلق بالأجور، فقد حذر صندوق النقد الدولي- الذي ترتبط معه تونس باتفاقية قرض بقيمة 2.8 مليار دولار- من أن فاتورة أجور القطاع العام تعد من بين الأعلى في العالم بالنظر إلى حجم اقتصاد البلاد، داعيًا الحكومة إلى السيطرة على النفقات الجارية وعلى فاتورة الأجور وبما يسمح بتحقيق الأهداف المالية التي تم تحديدها لعام 2019.
إضرابات متوالية:
شهدت تونس احتجاجات وإضرابات متوالية في العامين الماضيين كان آخرها احتجاجات نظمها أساتذة التعليم الثانوي في عدد من الولايات، مثل صفاقس، للمطالبة بزيادات في الأجور والمنح المالية، وهذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها تونس احتجاجات وإضرابات للمطالبة برفع مستويات الأجور في القطاع الحكومي.
ففي 22 نوفمبر الماضي، أضرب حوالي 650 ألف موظف حكومي عن العمل، بعد أن جمّدت الحكومة الاتفاق الذي توصلت إليه مع الاتحاد العام للشغل في أكتوبر الماضي، وكان يقضي بزيادة أجور نحو 150 ألف موظف في الشركات الحكومية، وذلك وسط مطالبة صندوق النقد الدولي بالإبقاء على مستويات الأجور دون زيادة في موازنة عام 2019.
واللافت للانتباه أن الإضراب العام في نوفمبر الماضي شمل كافة الولايات وضم موظفين من كافة المؤسسات الحكومية، بما فيها الوزارات والإدارات المركزية والمحلية، وهو ما يعود، في قسم منه، إلى النفوذ القوي للاتحاد على المستويين السياسي والاقتصادي، باعتباره شريكًا أساسيًا في اندلاع الثورة.
وفي منحى تصعيدي آخر، قرر الاتحاد، في 24 نوفمبر الماضي، تنظيم إضراب آخر في 17 يناير المقبل، يشمل موظفي شركات الدولة بهدف الضغط على الحكومة لرفع الأجور، وذلك بعد أن ألمح رئيس الوزراء يوسف الشاهد إلى إمكانية تأجيل زيادة الأجور، مشيرًا إلى رغبته في الوصول إلى اتفاق واقعي مع الاتحاد يراعي المالية العمومية.
وهنا، يبدو أن الحكومة تواجه خيارات محدودة. إذ أنها تعترف من ناحية بضرورة رفع المستويات العامة في الأجور بالنسبة للقطاع العام، خاصة مع زيادة معدلات التضخم في الأعوام الماضية، حيث وصلت إلى 5.3% في عام 2017 ومن المتوقع أن تصل إلى 7.8% في العام الجاري، وهو ما تسبب في انخفاض الأجور الحقيقية للسكان وارتفاع كلفة المستويات المعيشية.
لكنها ترغب من ناحية أخرى في الحصول على ثقة المجتمع الدولي باستمرارها في إجراء الإصلاح الاقتصادي، بما يمكن أن يساعدها على جذب الاستثمارات الأجنبية مستقبلاً. وعلى النقيض، يبدو أن تخليها عن أهداف استراتيجية، مثل احتواء عجز الموازنة العامة، قد يضر بشراكتها مع المؤسسات الدولية التي تقوم بإقراضها على غرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية.
خيارات محتملة:
تبدي الحكومة انفتاحًا على كافة الأطراف التونسية، بما فيها الاتحاد العام للشغل، من أجل التوصل إلى حلول وسط لأزمة الأجور التي تفاقمت مؤخرًا، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء يوسف الشاهد في أكثر من مناسبة بقوله أنه يرغب في التوافق على تحسين القدرة الشرائية لموظفي القطاع العام مع أخذ الوضع المالي للبلاد في الاعتبار.
وفي هذا الاتجاه أيضًا، اتجهت الحكومة، في 27 نوفمبر الماضي، إلى تفعيل مجلس الحوار المجتمعي الذي يضم ممثلين من الاتحاد العام للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، كأحد الآليات المؤسسية للتفاوض بشأن الزيادة في الأجور وتسوية الخلافات، إلى جانب مناقشة مشاريع الإصلاحات الاقتصادية الأخرى.
وبالتوازي مع ذلك، اتخذت الحكومة إجراءات أخرى لتخفيف الأعباء المالية على المواطنين، منها تجميد زيادة أية ضرائب جديدة على الأفراد والمؤسسات في موازنة عام 2019، والإبقاء على المستوى المحدود من دعم السلع الأساسية من المنتجات النفطية بقيمة نفقات 1.55 مليار دولار مقابل 1.75 مليار دولار في العام الجاري على الرغم من ارتفاع الأسعار العالمية للنفط. كما طرحت مبادرة تفعيل اللجنة الوطنية للتحكم في الأسعار تحت إشراف رئيس الوزراء في محاولة للسيطرة على التضخم.
لكن رغم أهمية هذه الخطوات، إلا أنها تظل أقل فاعلية في مواجهة تناقص القيمة الحقيقية للأجور العامة مع ارتفاع معدلات التضخم، والتي تؤثر سلبًا على المستويات المعيشية للمواطنين. ويبدو أنه لن يكون أمام الحكومة خيار آخر سوى تأجيل طرح الزيادات في أجور القطاع العام على أقل تقدير في الأجل القصير، بهدف احتواء عجز الموازنة المتزايد واستقطاب دعم المجتمع الدولي بشأن برنامج الإصلاح على أن تقوم بتعديل هيكل الأجور مستقبلاً مع تحقيق مزيد من الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد.