تحقيقات وحوارات
الإقتصاد التركي في مهب الريح.. ودولة أردوغان تواجه شبح الإفلاس
تواجه تركيا مخاطر اقتصادية تصاعدت حدتها في الآونة الأخيرة، الأمر الذي دفع العديد من وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض تصنيفها، من بينها وكالة "موديز"، التي اتخذت هذه الخطوة في 15 يونيو الجاري. وقد أرجعت الوكالة ذلك إلى ضعف المؤشرات الاقتصادية الأساسية لتركيا، وفي مقدمتها حساب ميزان المدفوعات، واتساع نطاق المخاطر الجيوسياسية نتيجة التوتر الذي طرأ على العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أن الاقتصاد التركي لازال عُرضة لمزيد من التقلبات في الفترة المقبلة طالما فشلت السياسات العامة في احتواء هذه المخاطر. تراجع مستمر للمرة الثانية في مدة أقل من عام، خفضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني لتركيا، في 15 يونيو الجاري، إلى درجة عالية المخاطر (B1) من (Ba3) كما أبقت على نظرة مستقبلية سلبية وذلك في دليل على تزايد المخاطر الاقتصادية والسياسية التي تواجهها تركيا. وسبق أن خفضت الوكالة تصنيف تركيا إلى (Ba3) من (Ba2) وذلك في أغسطس عام 2018. وبحسب الوكالة، فإن تركيا تواجه خطرًا في تزايد عجز ميزان المدفوعات نتيجة الأداء المتعثر للحساب الجاري (تجارة السلع والخدمات مع العالم الخارجي)، الأمر الذي قد يتواكب معه احتمال التخلف عن سداد المديونيات الحكومية، لا سيما بالنقد الأجنبي، وربما تفوق تلك المخاطر الإيجابيات التي يتمتع بها الاقتصاد مثل تنوع الأنشطة الاقتصادية وقوة الصادرات وتنوعها. وفي مايو الماضي، حذرت "موديز" من أنها قد تخفض التصنيف الائتماني السيادي لتركيا إذا أثبتت الحكومة أنها غير قادرة على تنفيذ سياسات اقتصادية تعمل على تحقيق نمو مستدام للاقتصاد، ووقف تدهور المؤشرات الاقتصادية الأساسية مثل سعر الصرف وميزان المدفوعات. وعلى نحو متوقع، واجه تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا انتقادًا واسعًا من قبل السلطات التركية، حيث ادعت وزارة المالية أن هذه الخطوة غير موضوعية ولا تتماشى مع متانة الأوضاع الاقتصادية في البلاد، في حين أن الأوضاع الاقتصادية لبعض الدول الناشئة، وفقًا لها، أقل قوة من تركيا وتتمتع بتصنيف ائتماني أفضل من الأخيرة. وفي عدة مناسبات بالعام الماضي، وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكالات التصنيف الائتماني بأنها "مُسيسة" وغير محايدة في تصنيفاتها. مشكلات عديدة يعكس تخفيض التصنيف الائتماني لتركيا مجموعة من الدلالات الاقتصادية. يتمثل أولها، في تصاعد حدة المخاطر الاقتصادية في البلاد، حيث لا يزال نمو الناتج المحلي الإجمالي يثير قلقًا للأوساط الاقتصادية، خاصة بعد أن انكمش الاقتصاد بنسبة 2.6% في الربع الأول من عام 2019 على أساس سنوي وليواصل أدائه المتراجع منذ أكثر من ستة أشهر. وفي الوقت نفسه، سجل الحساب الجاري عجزًا بقيمة 3.3 مليار دولار في الفترة من يناير إلى إبريل 2019 مقارنة بـ 1.3 مليار دولار في الفترة نفسها من عام 2018، أى بزيادة 153.8%، وهو أمر من شأنه أن يزيد الضغوط على سعر صرف الليرة التي فقدت أكثر من ربع قيمتها في العام الماضي. وينصرف ثانيها، إلى ضعف فعالية السياسات الاقتصادية في تحفيز الاقتصاد ودعم الاستقرار الاقتصادي للبلاد بشكل مستدام، فلا تزال عدم قدرة السلطات على تنفيذ خطة لدعم الاقتصاد مصدر قلق رئيسيًا لكثير من المؤسسات الدولية والمستثمرين الأجانب، حيث أن معظم التدابير التي اتخذتها الحكومة مؤخرًا لدعم نمو الاقتصاد غير مستدامة وتفرض تداعيات سلبية على استقرار الاقتصاد في المدى البعيد. وفي الأشهر الماضية، اتخذت الحكومة بعض التدابير مثل التخفيضات الضريبية وتقديم المساعدات المالية للشركات عبر قروض ميسرة من القطاع المصرفي، وهى إجراءات من شأنها زيادة الأعباء المالية عليها ، بجانب إضعاف مؤشرات القطاع المصرفي، وهو ما اتضح بالفعل في تعثر كثير من الشركات عن سداد القروض للبنوك مؤخرًا. وقد بدأت السلطات في اتباع نهج أكثر تدخلاً لدعم استقرار الليرة من خلال السحب من الاحتياطيات الأجنبية وفرض ضرائب على بيع العملات الأجنبية، وهو أمر من شأنه استنزاف تلك الاحتياطيات. ورغم ذلك، تتجنب تركيا اللجوء لبعض الحلول الأخرى مثل تنفيذ برنامج لإنقاذ الاقتصاد بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، وهو أحد الحلول الممكنة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي وتعزيز ثقة المستثمرين. ويتعلق ثالثها، بأن العوامل السياسية لا زالت غير مشجعة لدعم استقرار الاقتصاد في المدى القصير، حيث من المقرر إعادة الانتخابات المحلية لبلدية اسطنبول في 23 يونيو الجاري، وهو الأمر الذي جاء بضغط من جانب حزب العدالة والتنمية الحاكم، على نحو قد يؤثر على استقرار الأوضاع الداخلية. وفي الوقت نفسه، تجدد التوتر بين أنقرة وواشنطن مع إصرار الأولى على شراء نظام صواريخ الدفاع الجوي "إس -400" من روسيا، الأمر الذي كان له دور في تدهور الليرة بأكثر من 10% في الفترة الماضية إلى حدود 4.2 للدولار الواحد. مسار مستقبلي تشير الدلالات السابقة إلى أن الاقتصاد التركي لا يزال عُرضة لمزيد من التقلبات الاقتصادية والمالية في المدى القصير، لا سيما أن الاحتياطيات من العملات الأجنبية ضعيفة ومن المتوقع أن يتفاقم ضعفها على ضوء الالتزامات قصيرة الأجل لسداد الديون الخارجية وتمويل الواردات. ومما يزيد من حدة الضغوط الاقتصادية أن تركيا باتت أقل قدرة، من الناحية الهيكلية، على جذب السيولة الخارجية الكبيرة المطلوبة كل عام لسداد الديون والحفاظ على النمو الاقتصادي. وعلى هذا النحو، يبدو أن مساعيها لتحقيق نمو اقتصادي مستقر في الفترة المقبلة ستواجه صعوبات عديدة. وفي هذا الصدد، يتوقع صندوق النقد الدولي، على غرار غيره من المؤسسات الدولية، أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 2.5% بنهاية العام الجاري، فيما تظل هناك بعض المخاطر القائمة على غرار الضغوط التضخمية وارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجية بجانب تدهور العملة. وختامًا، يمكن القول إن الاقتصاد قد يتجه إلى مزيد من التراجع في الفترة المقبلة على ضوء تصاعد حدة المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية بالبلاد، الأمر الذي يُقوِّض من الثقة الدولية ويضعف من شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم.