تحقيقات وحوارات
أزمة معقدة.. الاقتصاد العراقي في مواجهة الاحتجاجات
تشهد العراق منذ عدة أسابيع تظاهرات كبيرة في العديد من المدن. وتعتبر هذه التظاهرات أحد أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي الذي يعاني مشاكل عديدة، نظراً لظروف عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تواجهها البلاد منذ سنوات، والتي تعيش حالة حرب في مواجهة تنظيم "داعش" منذ نحو خمس سنوات، وقد سيطر التنظيم، في بعض الفترات، على مساحة كبيرة من الأراضي العراقية، ووقع تحت قبضته العديد من الآبار النفطية. وبالنسبة للاحتجاجات الأخيرة، فقد تسببت بدورها في إصابة بعض القطاعات الاقتصادية بحالة اضطراب، الأمر الذي يمثل عاملاً مزعزعاً للاستقرار الاقتصادي الكلي في البلاد، ومهدداً كذلك لموقع العراق كمنتج ومصدر رئيسي للنفط في العالم. مظاهر مختلفة: أعلنت الحكومة العراقية، على خلفية الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت عدداً من المدن مؤخراً، عن تكبدها خسائر في العديد من القطاعات، التي شملت كلاً من الطرق والموانئ والقطاع المصرفي وسوق الصرف ومؤسسات القطاع الخاص، وغيرها من القطاعات، الأمر الذي يشير إلى الأضرار التي يمكن أن تلحق بالعراق واقتصادها في حال استمرار الاحتجاجات لفترات أطول، واتساعها سواءً من حيث المواقع التي تصل إليها أو القطاعات الاقتصادية التي تتضرر بسببها. وقد أدى تعرض البنك المركزي لإغلاق أبوابه في بعض الأيام خلال الفترة الماضية، بسبب وصول التظاهرات إلى المناطق القريبة منه، إلى عدم قيامه بتنفيذ بعض العمليات المتعلقة ببيع الدولار لشركات الصرافة والبنوك، ضمن برنامج "الحفاظ على سعر الدينار"، حيث يقوم البنك يومياً ببيع ما يتراوح بين 160 مليون و180 مليون دولار لتلك الجهات. ومن شأن عدم انتظام قيام البنك بهذا الدور أن يفضي في نهاية الأمر إلى شحٍ في السيولة النقدية من الدولار في أسواق الصرف، الأمر الذي يتسبب في ارتفاع سعر صرف الدولار، وتدهور قيمة العملة المحلية (الدينار). وبالفعل، فقد شهدت الأيام العشرة الأولى من شهر نوفمبر 2019 ارتفاعاً في سعر الدولار من 1,183 دينار إلى 1,190 دينار، بنسبة تصل إلى نحو 0.5%. ورغم أن هذه النسبة تعد صغيرة إلى حد ما، لكن استمرار الأزمة على حالها، وتكرار عمليات إغلاق البنك المركزي، من شأنه أن يتسبب في المزيد من الارتفاعات وحدوث أزمة كبيرة في سوق الصرف، الأمر الذي ينتقل بدوره إلى أسواق السلع الضرورية، لاسيما وأن العراق تعتمد بنسبة 90% على الاستيراد من الخارج لسد احتياجاتها من العديد من السلع الضرورية. وسوف تتفاقم هذه الأزمة أيضاً إذا أضيفت إليها مشكلات أخرى تتعلق بتعرض الموانئ العراقية للتوقف عن العمل بسبب التظاهرات. وقد أوضح المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة اللواء عبد الكريم خلف (الأسبوع الماضي) أن بعض الموانئ تعرضت لمثل هذه الأزمة خلال الأيام الماضية، وقدر خسائر العراق من إغلاق ميناء أم قصر– بمفرده- بنحو 6 مليار دولار. وتزامناً مع ذلك، تشير تقديرات الخبراء إلى أن القطاع الخاص تأثر بشكل أكبر بسبب التظاهرات، إذ بجانب تأثر أنشطته سلباً بمشكلات قطع الطرق والجسور، فإنه تأثر كذلك بقيام الحكومة بقطع خدمات الإنترنت إلى جانب حظر التجول ولاسيما في المواقع القريبة من ساحات التظاهر في بغداد والمدن الأخرى. مشكلات القطاع النفطي يعتبر القطاع النفطي هو القطاع الاقتصادي الأهم في العراق، حيث تشير تقديرات البنك المركزي العراقي إلى أن هذا القطاع يساهم بأكثر من 61% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما يساهم القطاع بما يناهز 85% من الإيرادات العامة للدولة، وهو يعد كذلك المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية التي ترد إلى البلاد، بنسبة تتجاوز 95%. فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة تُعوِّل عليه لتمويل موازنتها العامة، وللتخلص من أزمة الديون الحكومية التي وصلت إلى ما يناهز 49% من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما قيمته 110 مليار دولار عام 2018، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. هذا بجانب أزمة الديون الأجنبية، التي تصل، في بعض التقديرات، إلى 48 مليار دولار. وتوضح هذه المؤشرات المكانة المهمة التي يحتلها القطاع النفطي في الاقتصاد العراقي، كما أنها تشير، من زاوية أخرى، إلى حجم الأزمة التي يمكن أن تتعرض إليها العراق واقتصادها في حال اتساع التظاهرات وتسببها في مشكلات تزعزع استقرار القطاع. وفي هذا الصدد، فإن التظاهرات التي تشهدها العراق ليست ببعيدة بالفعل عن القطاع النفطي، وقد أعلن مسئول بقطاع النفط، في 7 نوفمبر الحالي، أن المتظاهرين قاموا بالفعل بقطع الطرق والجسور ما أدى إلى منع وصول نحو 90 ألف برميل من النفط الخام إلى موانئ التصدير، وتركها عالقة في أحد حقول شمال العراق. وبوجه عام، فإن وعى المتظاهرين بأهمية هذا القطاع عادة ما يدفعهم إلى استخدامه كورقة ضغط على الحكومة. وقد حدث ذلك في العديد من المناسبات السابقة، كما كان الحال في شهر يوليو من عام 2018، عندما تظاهر المحتجون بالقرب من عدة حقول نفطية، كان من بينها حقل "الزبير" (بمحافظة البصرة جنوب العراق)، والذي ينتج نحو نصف مليون برميل يومياً. وبجانب هذا وذاك، فإن تعرض قطاع النفط لعدم انتظام في الإمدادات بسبب أى اتساع محتمل في التظاهرات مستقبلاً، من شأنه أن يُفقِد العراق مكانتها كأحد أهم منتجي النفط الخام في العالم، لاسيما أن إنتاجها وصل إلى 4.7 مليون برميل يومياً طبقاً لبيانات شهر سبتمبر 2019 الصادرة عن منظمة "أوبك"، محتلة بذلك المرتبة الثانية وفق حجم الإنتاج ضمن أعضاء المنظمة بعد السعودية، كما أنها تعتبر المنتج الرابع على المستوى العالمي أيضاً، بعد السعودية والولايات المتحدة وروسيا. وختاماً، فإن مستقبل الاستقرار الاقتصادي في العراق مرهون بما ستشهده الفترة القصيرة المقبلة من تطورات بشأن التظاهرات، ومداها الجغرافي واتساعها القطاعي، وكذلك رد الفعل الحكومي تجاهها، ومساراتها المحتملة بين إمكانية التفاقم في حال عدم حدوث انفراجة في هذا الإطار، أو التراجع وزوال المخاطر المحدقة بالاقتصاد في حال الوصول إلى توافقات بين الحكومة والمتظاهرين، وعودة الاستقرار إلى الشارع العراقي من جديد. اقرأ أيضا: بالفيديو.. سياسي عراقي: الفساد المالي والإداري وراء انهيار الاقتصاد العراقي كيف أثرت توترات الشرق الأوسط على قطاع النفط العراقي؟