رأى عبد الناصر في فوزه انتصاراً لجيل ثورة يوليو ، كنت صغيراً عندما مررت ذات مرة في خمسينات القرن الماضي بميدان باب الشعرية ، وجدت زحاماً فأثير فضولي ، ودسست نفسي بين الواقفين ، إلى أن وصلت للمكان الذي كان يقف فيه رجل ذو ملامح قوية ، يتحدث بصوت واثق ، موجهاً حديثه للحشد الكبير الواقف أمامه .
أدركت أن الرجل يتحدث عن انتخابات البرلمان ، كان يحكي عن مشوار حياته ، وعن ظروف الفقر التي عاشها ، وهو ما يجعله واحداً منهم ، يشعر بمشاكلهم ، ويتعب لتعبهم ، متعهداً بأن يبذل كل جهده لتحسين أحوالهم .
معاناة أهالي باب الشعرية
صدرت أصوات من الحشد الكبير د أن الحي ينقصه مستشفى ، وأن المعاناة كبيرة لأن أقرب مستشفى ، إما قصر العيني أو الدمرداش ، وهو ما يجعل أهالي باب الشعرية يعانون بشدة ، أنصت الرجل باهتمام ثم أطلق وعداً بأن يحقق حلم المنطقة ، التي يعيش فيها آلاف البشر ، وقال إنه سيبني المستشفى ، لكن على كل مواطن من باب الشعرية يؤيد انتخابه ، أن يضع في صندوق " قرش صاغ واحد " ، وسيقوم هو باستكمال المبلغ المطلوب لبناء المستشفى .
[caption id="attachment_656237" align="alignnone" width="638"]
محمد رجب يكتب: سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان.. هزم منافسه بقرش صاغ[/caption]
والده ذبح النعجة لـ يكرم ضيفه
كل مواطن في باب الشعرية يعرف من هو
سيد جلال جيلاني مبروك العدوي ، الصبي الذي عانى مرارة اليتم في سن مبكرة ، وذاق ما هو أكثر من المر في حياته الأولى ، ولد سيد جلال في أسرة فقيرة ، لكن أبوه كان يتمتع بصفة الكرم ، وبلغ من كرمه أن ذبح النعجة الوحيدة التي يملكها لضيوف أغراب ، واقترض الخبز من جار له كان من مشايخ القرية ، قام الرجل بواجب الضيافة على أكمل وجه ، لكنه توفي وترك ابنه سيد في عمر خمس سنوات ، وهو الذي فقد أمه بعد ولادته بشهور قليلة ، عاش سيد سنوات طفولته يعاني عذاب اليتم ، وكفله خاله الذي ألحقه بالكُتاب لكى يحفظ القرآن والقراءة والكتابة والحساب ، لكن لم يكمل سيد تعليمه لأن ظروف حياته الصعبة اضطرته للرحيل مع قريب له إلى القاهرة ، سعياً وراء لقمة العيش ، وهو الذي لا يملك شيئا في بلدته بني عدي مركز منفلوط بمحافظة أسيوط .
عمل فراشاً وعربجياً وعاملاً وبائعاً للخبز
عمل سيد جلال في كل حرفة أو مهنة تخطر على بال إنسان ، اشتغل حمالاً وبائعاً وعربجياً وعاملاً في مخبز ، وبائعاً للخبز على دراجة ، كان يجري بها في شوارع القاهرة كالبهلوان ، وكان يفخر خلال حديثه في حملته الانتخابية بكل مهنة عمل بها ، واحتفظ في جيبه برخصة قيادة العربة الكارو ، وكان يخرجها فخورا بها أمام الحشود ، كان سيد جلال مقبلاً على الحياة ، لديه تصميم على مواجهتها والانتصار على مشاكلها وعوائقها ، كان يملك رؤية وبصيرة تجعله يحيا في سلام داخلي في انتظار الفرج .
[caption id="attachment_656238" align="alignnone" width="641"]
محمد رجب يكتب: سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان.. هزم منافسه بقرش صاغ[/caption]
وجاء الفرج بالفعل عندما رحل إلى بورسعيد للعمل في شركة ملاحة يونانية ، عمل في وظيفة فراش وكانت هذه المهنة البسيطة عنوان الفرج و" وش الخير " ، اعتبر سيد جلال وظيفته الجديدة بداية الحياة التي طالما انتظرها ، وانطلق بكل طاقته يعمل في عدة اتجاهات غير مكتف بوظيفته الأصلية ، فحرص على تعلم اللغات من الخواجات ، فأجاد عدداً منها ، وتحدث اليونانية والإيطالية والفرنسية .
اليونانيون ساعدوه حتي أصبح أكبر رجل أعمال
ولأنه جاد في عمله ، وأمين في تعاملاته ، وكفء كذلك ، منحه اليونانيون أصحاب شركة الملاحة ثقته الكبيرة ، وفتحوا له أبواب التعامل الواسع مع عملاء الشركة وغيرهم ، فاستطاع سيد جلال أن يبني قاعدته المالية الأولى والأساسية ، التي انطلق منها بعد ذلك ليكون من كبار رجال الأعمال ، بعد فترة استقل سيد جلال بتجارته ، وأسس شركة للتصدير والاستيراد ، فصار من كبار المستوردين والمصدرين ، وكان للشركة فرعاً في باب الشعرية ، والذي كان باباً للعلاقات مع أهالي الحي العريق .
من العتبة حتي باب الشعرية
بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 بسنوات قليلة ، وبالتحديد في عام 1957 ، أجريت أول انتخابات في عهد الثورة لتشكيل البرلمان الجديد ، والذي أطلق عليه مجلس الأمة ، وترشح سيد جلال لخوض الانتخابات ، وخلال هذه الانتخابات عرفت شخصياً الرجل ، لكن ليس عن قرب ، فقد كنت طفلاً من سكان حي الجمالية ، ولكي أذهب إلى العتبة كان لابد من المرور بميدان باب الشعرية ، ولو كنت راغباً في الذهاب إلى العباسية لكان لابد من المرور بميدان باب الشعرية ، وفي اليوم الذي ذكرته مسبقاً كنت أمر فوجدت الرجل والحشد الكبير حوله ، فانحزت له وصرت من دعاته ، وصرت وأقراني الأطفال نحمل صوره ونجوب المنطقة ، هاتفين له وداعين له بالفوز .
[caption id="attachment_656239" align="alignnone" width="741"]
محمد رجب يكتب: سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان.. هزم منافسه بقرش صاغ[/caption]
هزم الرأسمالية بقرش صاغ
كان المنافس لسيد جلال أحد كبار رجال الأعمال واسمه محمد إبراهيم ، كان من أكبر تجار الشاي ويبيع شاي مشهور وقتها اسمه شاي " زوزو " ، وللرجل عمارة من أشهر عمارات باب الشعرية _ موجودة حتى الآن _ وهي عمارة تجارية ، وكان فكره في هذه المسألة سباقاً ، فلم نكن في مصر قد عرفنا العمارات التجارية التى تقسم مساحاتها كمحلات ، كان محمد إبراهيم يخوض الانتخابات بطريقة الرأسماليين المعتادة ، فهو يمنح من يعتقد أنه سيصوت له جنيهاً كاملاً ، وكان هذا المبلغ مذهلاً في الخمسينات ، بشرط أن يتم قطع الورقة المالية نصفين ، يعطي أحدها للناخب والآخر يحتفظ به رجال إبراهيم لحين التأكد من منح الصوت ، على الجانب الآخر رفض جلال هذا الأسلوب ، وهو الذي كان قادراً على منافسة صاحب زوزو بحكم ثرائه ، بل فضل أن يقوم كل من يؤيده بوضع قرش صاغ في الصندوق المخصص لذلك ، حتى يتم بناء المستشفى الذي حلم به أبناء باب الشعرية .
عندما هتفنا : خدنا فلوسه وكسرنا فانوسه
كان الزعيم جمال عبد الناصر يتابع تفاصيل المعركة الانتخابية ، حيث كان يراها صراعاً بين القديم والجديد ، بين الرأسمالية والاعتصاميين من أبناء الطبقة الجديدة ، التي بنت ثروتها من عرقها ، ولم ترث أرضاً أو إقطاعاً ، وبعد أن فاز سيد جلال تحدث عبد الناصر في إحدى خطبه عن قوة الطبقة الجديدة وقدرتها على ضرب الرأسمالية المستغلة ، التي أرادت أن تشتري إرادة الناخبين وأصواتهم ، كان الفانوس الرمز الانتخابي لمحمد إبراهيم المنافس لسيد جلال ، لذلك وبعد فوز سيد جلال كنا نسير في الشوارع في زمرة ونهتف : " خدنا فلوسه .. وكسرنا فانوسه " .
[caption id="attachment_656240" align="alignnone" width="815"]
محمد رجب يكتب: سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان.. هزم منافسه بقرش صاغ[/caption]
سياسي شريف صنع تاريخه بنزاهة
بنى سيد جلال المستشفى كما وعد ، وظل يعيش في وجدان كل مواطن في باب الشعرية حتى الآن ، وكان بداية مدرسة السياسة الجديدة في دائرة باب الشعرية ، تتلمذ عليه فحولها بعد ذلك ، وهو يعتبر نموذجاً أمام الشباب لكل سياسي شريف صنع تاريخه بنزاهة ، أعطى ولم يستغل موقعه ، وقد ظللت أتابع مسيرة الرجل بعد أن صرت في مرحلة عمرية أكثر إدراكاً للحياة السياسية ، وأشهد أنه كان عطاءاً في كل مجال ، وفي داخل المجلس ، كان وراء مطلب إلغاء الدعارة في مصر ، ووافق مجلس الأمة ، وكان الرئيس جمال عبد الناصر داعماً لمواقفه ولموقف المجلس .
كاتب المقال : المستشار السياسي لرئيس حزب الحركة الوطنية المصرية وزعيم الأغلبية الاسبق في مجلس الشوري
د محمد رجب يكتب: فؤاد محي الدين أفشل سيناريو تنصيب أبو غزالة رئيساً وساند مبارك
[caption id="attachment_656241" align="alignnone" width="715"]
محمد رجب يكتب: سيد جلال من عربجي وبائع خبز لـ نائب في البرلمان.. هزم منافسه بقرش صاغ[/caption]