د محمد رجب يكتب : رفعت المحجوب حارس الاشتراكية .. أُغتيل بعد مكالمة هاتفية من الرئيس
كان الدكتور رفعت المحجوب كبير حراس الاشتراكية في مصر ، ظل حتى نهاية حياته مدافعاً عن الحق في المساواة ، وعدالة توزيع المكتسبات على أفراد الشعب ، وحتمية أن يحصل الفقراء على فرص متكافئة للترقي وتحقيق مكانة اقتصادية اجتماعية أفضل ، من خلال العمل والكد ، حصل المحجوب على الدكتوراه في نظرية اقتصادية ، قال بها جون ماينارد كينز الاقتصادي الإنجليزي الشهير ، الداعي إلى الاقتصاد المختلط بين ملكية الدولة لوسائل الإنتاج الكبيرة ، وحرية الأفراد في إقامة الأعمال .
عمل وزيراً برئاسة الجمهورية
بعد عودة المحجوب من دراسته ، كانت ثورة 23 يوليو 1952 في أوج ازدهارها ونشاطها ، لتغيير المجتمع وتحسين أحواله ، وكان المحجوب أحد منظري المرحلة الاشتراكية ، ووصل إلى قمة المناصب السياسية وعمل وزيراً برئاسة الجمهورية ، وأمينا عاما للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ، وكانت موجة الانفتاح العاتية ، التي بدأت في السبعينات على يد الرئيس الراحل محمد انور السادات وقد تعاظمت في الثمانينات ، ولم يكن الرئيس محمد حسني مبارك يمانع في توسيع دائرة الانفتاح والخصخصة ، وبيع شركات ومصانع القطاع العام ، لكنه ترك هامشاً من الصراع بين القوى السياسية والمجتمعية ، لكي تقرر مدى تسريع ، او إبطاء عملية البيع والخصخصة .لن يدخل المصريون الجامعة بشهادة فقر
وقف المحجوب حارساً قوياً أمام هذه الموجة العاتية ، وتصدى لها ، واستطاع أن يكبح جماحها لدرجة كبيرة ، عطل المحجوب خلال رئاسته لـ مجلس الشعب قرارات وتشريعات حكومية ، كان مقصوداً بها بيع كل ما يملكه القطاع العام ، وخصخصة الشركات التي كانت الحكومة تدعي أن ذلك سيجعل من مصر جنة !! ، كان لدى المحجوب حساسية تجاه أي شئ يمس مصالح الفقراء . رفض في إحدى جلسات المجلس التاريخية ، الموافقة على إنشاء جامعات أهلية " غير هادفة للربح " ، بينما تقام الآن الجامعات الخاصة والدولية ، التي تسدد فيها المصروفات بمئات الآلاف من الجنيهات للطالب كل عام ، انتفض المحجوب وترك منصة المجلس ، بعدما طالب إحدى الأعضاء بالموافقة على إنشاء جامعة أهلية ، جلجل صوت المحجوب في المجلس رافضاً أن يكون التعليم بالمصروفات ، ران الصمت على قاعة المجلس ، التي رددت صدى عباراته القوية قائلاً : " لن يدخل المصريون الجامعة بشهادة فقر " .رفض المحجوب بيع فندق سان ستيفانو
وشهدت جلسات البرلمان وقتها ، العديد من المبارزات بين رأسمالية صاعدة في مصر ، يقودها غربيون تعلموا في بلاد آدم سميث ، وبين المحجوب الوطني رفيع المستوى ، الذي تعلم في الغرب ، لكنه كان اشتراكيا حتى النخاع ، رفض المحجوب بيع فندق سان ستيفانو ، وأعطى الفرصة لنواب الإسكندرية لكي يطرحوا وجهة نظرهم ، في مواجهة فؤاد سلطان وزير السياحة أحد المدافعين بقوة عن الخصخصة وبيع القطاع العام ، قام المحجوب بتفريغ قانون مزايا الاستثمار من كل ما يضر بمصلحة مصر ، ويعطي للمستثمرين مزايا لا تعطى في دولة أخرى .القطط والبقرات السمان
كان المحجوب احد كبار المفكرين في علوم السياسة والاقتصاد والقانون ، وعرف عنه إمكانياته الفذة في الخطابة وإجادة اللغات ، وثقافته العريضة ، التي كان قادراً من خلالها على مبارزة أي شخصية ، بدءاً من مجال النظريات الاقتصادية وحتى شعر المعلقات ، كان يمكنه تحليل لوحة في الفن التشكيلي ، وفي نفس الوقت الحديث بعمق عن النظريات السياسية ، وهو ممن لديهم القدرة على صك العبارات ، التي تصير من المأثورات ، فهو الذي أطلق تعبير " القطط السمان " على أثرياء الانفتاح في السبعينات ، وبعد فترة تضخمت القطط ، فأطلق عليها المحجوب لفظ " البقرات السمان " .لا تكونوا مثل أورشليم القرية التي أكلت أنبياءها
وهو الذي كان يستخدم ثقافته وبلاغته خلال مناقشات مجلس الشعب ، فقال مخاطباً المعارضة في الثمانينات : " لا تكونوا مثل أورشليم القرية ، التي أكلت أنبياءها " ، وهو الذي خاطب الرئيس حسني مبارك بعد عودته من الدار البيضاء بالمغرب ، وإعادة الجامعة العربية إلى مصر قائلاً : " أيها القادم من المحيط ترنو ببصرك إلى الخليج " ، وهو صاحب أشهر مأثورة دستورية برلمانية ، " مجلس الشعب سيد قراره " ، وهي عبارة صحيحة تماماً ، لكن استغلها البعض لتشويه صورة رجل هو من الأفذاذ في تاريخنا المعاصر .وقف في وجه رجال الرأس مالية
شاهدت المحجوب عام 1990 في أحد اجتماعات الأمانة العامة للحزب الوطنى ، يزأر في وجه رجال الرأسمالية عاطف عبيد وسمير طوبار ، الذين طرحوا فكرة بيع شركات القطاع العام ، رفض المحجوب بيع أي شركة يملكها القطاع العام ، قال : إن هذه الشركات والمؤسسات بناها المصريون بعرقهم وضرائبهم ودماء أبنائهم في حرب أكتوبر ، وهم أصحاب الحق في تحديد طريقة التعامل مع هذه الاستثمارات الضخمة ، صرخ المحجوب قائلاً : لا يمكن للدولة أن تتحول إلى مقاول يبني ويبيع للقطاع الخاص ، الحكومة تبني هذه الشركات والصروح بسواعد شبابنا لتحقيق التنمية ، ومن حق القطاع الخاص أن يبني وأن يدير شركاته وأمواله ، ويتصرف فيها كيفما شاء ، ثم عاد يضغط على حروف عبارته : " الدولة ليست مقاول ، ولا يمكن أن تتحول إلى مقاول يبني ويبيع " .عبيد وطوبار اتفقا علي بيع كل شئ
قام الدكتور رفعت المحجوب خلال الاجتماع للرد على اتصال جاءه ، وربما كان الرئيس هو المتصل ، كنت أجلس بين الدكتوز عاطف عبيد وزير قطاع الأعمال المتحمس بشدة لبيع كل شئ ، وقد ترك الدنيا بعدما باع كل شئ ، ولم يسأله أحد عن شئ ، وبين الدكتور سمير طوبار عضو الأمانة العامة للحزب ورئيس اللجنة الاقتصادية ، مال عبيد لكي يتحدث إلى طوبار وأنا بينهما ، وقال : " احنا ما اتفقناش على كدة ، احنا اتفقنا نبيع كل حاجة ، وهز طوبار رأسه موافقاً ومؤيداً رأي عبيد " ، لكن لم يكن اياً منهما يجرؤ على التصريح برأيه في مواجهة المحجوب ، الذي كان قادراً على دحر أي شخص يتبنى توجهات رأسمالية فيما تملكه الدولة .أُغتيل وانطلق قطار الخصخصة
عاد المحجوب بعد أن أنهى اتصاله التليفوني ، ليؤكد على ما سبق أن قاله : الدولة لن تكون مقاولاً .. وشعرت بململة جيراني عبيد وطوبار ، لكنها كانت ململة صامتة ، لا صوت لها ، وبعد الاجتماع تمتموا ببضع كلمات عبروا خلالها عن غضبهم من موقف المحجوب الراسخ في دفاعه عن الاشتراكية ، والحفاظ على الأصول الرأسمالية للدولة .. بعد هذا الاجتماع بأيام قليلة ، أُغتيل الدكتور رفعت المحجوب ، لتنطلق بعدها تشريعات الخصخصة وبيع القطاع العام .كاتب المقال : المستسار السياسي لرئيس حزب الحركة الوطنية المصرية وزعيم الاغلبية الاسبق في مجلس الشوري
اقرأ أيضا.. د محمد رجب يكتب : دُمرت غزة.. فسقطت إسرائيل وعادت القضية الفلسطينية لدائرة الضوء