بأقلامهم
زينب الباز تكتب: هيباتيا المصرية.. شهيدة الفلسفة
هيباتيا المصرية فيلسوفة تخصصت في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، وتعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات، كما أصبحت علما في تدريس الفلسفة وعلم الفلك، إضافة لبراعتها في كافة علوم عصرها أراد من قتلوها القضاء عليها وعلى أفكارها، فجاء مصرعها الوحشى سببا فى خلود اسطورتها.
تعد هيباتيا المصرية الكتاب والشعراء والدارسين، ولدت عام 370م بالإسكندرية، ابنة ثيون السكندري، عالم الرياضيات والفلك الشهير الذي عاصر ببس الرومي خلال فترة حكم الإمبراطور ثيوذوسيوس الأول وكان رئيس جامعة الإسكندرية.
خاضت هيباتيا فى مجالات العلم التى كانت حكرا على الرجال فى ذلك الوقت، الذى حرمت المرأة فيه من العديد من حقوقها واعتبرت فتنة، وكان لها وضعها بين طلبة العلم لما امتازت به من ذكاء وعبقرية، وتعتبر أما للعلوم الطبيعية الحديثة.
شروح الفلسفة
تميزت هيباتيا المصرية فى شرح الفلسلفة، فى مجالس العلم التى اكتظت بطالبى العلم الذين تعرفوا على رموز الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو من خلالها، وكانت هذه المجالس بمثابة حلقات للتفكير والأسئلة والتطرق إلى كل ما ليس مألوفا، وانتمت إلى المدرسة الأفلاطونية الجديدة.
يعود إلى هيباتيا، بحسب الرياضيين، الفضل فى ابتكار طريقة جديدة فى القسمة الستينية، كما نقحت شروح أبيها فى علم الفلك، وكتبت تفسيرات لقوانين بطليموس الفلكية، فهي أول عالمة رياضيات في تاريخ البشرية ولم تظهر بعدها أية عالمة رياضيات شهيرة أخرى قبل ماريا أنيزي في عصر النهضة.
كان التعليم في عصرها عملية متعددة المراحل، تبدأ في المنزل بإعطاء مقدمة عن سبل الخطابة الملائمة ثم تحليل القصص التي تستخلص منها دروس حول السلوك اللائق، وبعد ذلك تمارين تساعد على كيفية تصحيح القواعد النحوية، وتطوير مهارات التعبير البلاغي، وإجادة المحتوى الرئيسي لبعض الأعمال الأدبية الشهيرة نظرا لاختلاف اللغة اليونانية التي يستخدمها صفوة المصريين في الكتابة، عن اللغة اليونانية المستخدمة التي يتحدث بها معظم الناس، من خلال قراءة مجموعة من النصوص والتوقف عند كل مرة يتم فيها الإشارة إلى حدث أو شخصية مهمة لشرحها للطلاب ومع تقدم الفتاة في التدريب، بدأت تعمل على تمرينات تعرف باسم بروجيمناسماتا.
التمارين دفعت هيباتيا إلى تناول تفاصيل القصص الشهيرة، والمقولات المؤثرة المنسوبة لشخصيات تاريخية مثل ديوجانس الكلبي وسقراط، بالإضافة إلى تحديد الموضوعات بإستخدام المهارات اللغوية التي كانت قد اكتسبتها مسبقا وساعدها ذلك على تطوير مهاراتها في الكتابة والقراءة كما كان هذا التدريب أيضا بمثابة تربية أخلاقية فقد تم اختيار النصوص التي قرأت والقصص التي حللت والشخصيات التاريخية التي نوقشت لأنها تساعد أفراد الصفوة الصغار على فهم السلوكيات اللائقة.
دراسة مبتكرة
لم تكتف هيباتيا المصرية بمجرد تدريب رياضي عادي، بل نجحت بسرعة في إثبات أنها أكثر قدرة من والدها وقامت بتطوير مهارات أعظم من تلك التي يمتلكها في مرحلة ما، انتقلت هيباتيا من كونها طالبة تدرس العلوم الرياضية في مدرسة والدها، إلى أن أصبحت أحد زملائه وفي العالم الحديث، يتحدد هذا الانتقال بصورة واضحة حيث يصبح الطلاب من زملاء أساتذتهم عند مناقشة الرسالة، وهي عمل مهم ينتج عن دراسة مبتكرة تنم عن إبداع فكري وقدرة عملية في مجال التخصص.
وكانت بحسب الموسوعة البيزنطية المسماة سودا، والتي صدرت في القرن العاشر الميلادي، أستاذة فلسفة وكان بين طلابها عدد من المسيحيين والأجانب، ورغم أنها كانت لا تؤمن بوجود إله إلا أنها كانت محل تقدير وإعجاب تلامذتها المسيحيين واعتبرها بعض المبدعين المسيحيين في العصور اللاحقة رمزا للفضيلة وبقيت طوال حياتها عذراء ويحكى أنها رفضت أحد خطابها عن طريق إعطائه خرقة بها بقع من دمها موضحة له أنه لا يوجد شيء جميل في الرغبات الجسدية.
تبادلت هيباتيا المصرية مراسلات مع تلميذها السابق سينوسيوس القورينائي، الذي أصبح عام 410 ميلادية أسقف بتلومياس ليبيا وتعتبر هذه الرسائل مع كتابات دامسكيوس عنها المصادر الوحيدة المتبقية عن هيباتيا من طريق طلابها.
كانت أعمال هيباتيا مشتركة مع والدها، ثيون الكنسدروس نتيجة ندرة وجود أعمال أنثوية منفردة للنساء في العصور القديمة ومن مساهماتها الهامة في مجال العلوم: رسمت مواقع للأجرام السماوية، واختراعت مقياس ثقل السائل النوعي المكثاف المستخدم في قياس كثافة ولزوجة السوائل وقال تلميذها سينوسيوس أنها صنعت أيضاً نوع من آلات الإسطرلاب، تضمنت أعمال هيباتيا تعليقات على كتاب أريثميتيكا من تأليف ديوفانتوس.
عبقرية فذة
يقول المؤرخ الكنسي سقراط أن هيباتيا في كتابه تاريخ الكنيسة: كانت هيباتيا، ابنة الفيلسوف ثيون بارعة في تحصيل كل العلوم المعاصرة، مما جعلها تتفوق على كل الفلاسفة المعاصرين لها، قدمت تفسيراتها وشروحاتها الفلسفية، خاصة فلسفة أفلاطون لمريديها الذين قدموا من كل المناطق، بالإضافة إلى تواضعها الشديد لم تكن تهوى الظهور أمام العامة رغم ذلك كانت تقف أمام قضاة المدينة وحكامها دون أن تفقد مسلكها المتواضع المهيب الذي كان يميزها عن سواها، والذي أكسبها احترامهم وتقدير الجميع لها كان والي المدينة اورستوس في مقدمة هؤلاء الذي كانوا يكنون لها عظيم الاحترام.
أفكار هيباتيا جرت عليها الكثير من المتاعب فقد كان المسيحيون يرفضون أفكارها الأفلاطونية حول طبيعة الإله والحياة الأخرى بالإضافة إلى عدم التزامها بمبادئ الدين المسيحي الصارمة كما أزعج الكنيسة التفاف الكثيرين حولها، وهو ما يفسر استياء البابا كيرلس مستاء يمثله وجود هيباتيا
كان حادث قتلها مأساويا على يد جموع من المسيحين التي تتبعتها عقب رجوعها لبيتها بعد إحدى ندواتها حيث قاموا بجرها من شعرها، ثم قاموا بنزع ملابسها وجرها عارية تماما بحبل ملفوف على يدها في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، ثم إمعانا في تعذيبها، قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا بها النيران، وكان ذلك في شهر مارس عام 415 م، وكانت هذه هي نهاية أول شهيدة علم في التاريخ البشري.
نهاية مأساوية
بمقتل هيباتيا المصرية رحل عدد كبير من العلماء عن الإسكندرية، كما كان نهاية للتقدم اليوناني في مجال الرياضيات ونهاية عصر التنور الفكري والتقدم المعرفي الذي شهدته مدينة الإسكندرية لمدة 750 عامًا بعد مقتلها، قام العديد من العلماء بترك المدينة والانتقال إلى أثينا أو إلى مراكز أخرى.
وقيل عنها أنها كانت ذات مظهر جذاب وأمضت حياتها عزباء بإرادتها وعند سؤالها عن سبب ولعها بالرياضيات ورفضها للزواج، أجابت بأنها متزوجة بالحقيقة
من أشهر أقوالها بحسب الدراسة التي أعدها الكاتب والباحث مكاريوس جبور من مكتبة الكتب المسيحية:
الخرافات يجب أن تدرس كخرافات، الأساطير كأساطير، المعجزات كخيالات شعرية تقديم الخرافات على أنها حقائق هو شيء فضيع، لأن عقل الطفل يقبلها ويصدقها وفقط بعد ألم عظيم وربما مأساة يمكنه أن يتخلص منها .
"الحياة عبارة عن حالة من التكشف، وكلما سافرنا ازدادت الحقيقة التي يمكننا فهمها، من أجل فهم الأشياء الموجودة أمامنا، الأفضل أن نفهم تلك التي تكمن ورائها".
في الواقع، سيقاتل الرجال من أجل الخرافات بنفس السرعة التي يقومون بها في القتال من أجل الحقائق الحية، وأحياناً أكثر لأن الخرافات غير ملموسة، ولا يمكنك الوصول إليها لدحضها أما الحقيقة فهي وجهة ويمكن تغييرها.
احفظ حقك في التفكير، حتى ولو كان التفكير بشكل خاطئ، فهو أفضل من عدم التفكير على الإطلاق
قال عنها العالم الألماني يوهانس كيبلر إن الدارسين وطُلاب العلم كانوا يأتون إلى محاضراتها في معهد العلوم التابع لمكتبة الإسكندرية من كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية، لبراعتها وعلمها وأسلوبها العبقري في الشرح، فقد كانت متفوقة على كل فلاسفة عصرها، حيث نقَّحت شروح أبيها في علم الفلك، وكتبت تفسيرات وشروحًا لكتاب القوانين الفلكية لبطليموس، وشروحات لكتاب المخروطات لأبولونيوس البرجي، وتخصصت في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، وتعد الأم الروحية للعلوم الطبيعية الحديثة؛ حيث أنها ابتكرت نظريات علمية لن تعرفها البشرية إلا بعد مرور قرابة اثني عشر قرن.
قال عنها الكاتب والمُفكر والمؤرخ أمين الريحاني:
هيباتيا زينةُ نساء الإسكندرية في تلك الأيام، وحُجة الفلسفة الأفلاطونية، وصديقة الأمراء المُحبين للعلم والعلماء ومُرشدة الحُكام، وعدوة التعصب والخُرافة، كانت تُعَلِّمُ بأفصح لسان وأجلى بيان فلسفة أفلاطون الجديدة، في ذاك المتحف الذي شيَّدهُ بطليموس رفيق الإسكندر أنارت هباسيا أنواراً باهرةً.
وعلى الرغم من سمو ورفعة تلك المكانة العلمية والاجتماعية التي حَظيت بها هيباتيا إلا أنَّ ذلك لم يكن ليمنعَ أو حتى ليحولَ دون أنْ تغتالها الأيدي المُتطرفة من الكهنة والرعاع في ذاك الزمان، إذ اقتُرفت بحقها أبشع الجرائم المروعة على مر التاريخ وبقتلها أُقفل باب المتحف العظيم الذي شيَّده رفيق الإسكندر وكانت نهاية العلم والفلسفة في الإسكندرية، وأنتصر التعصب على الحرية والتهذيب.
في القرن الثامن الميلادي جمع المفكر البيزنطي فوتيوس رواية داماسيوس عن هيباتيا وسقراط القسطنطينية في كتابه بيبليوتيك وعلق فيه عن شهرتها العظيمة كعالمة، رغم إسهامات هيباتيا العلمية لم يتم الاحتفاء بها بالصورة المطلوبة، لتصبح أول عالمة رياضيات في التاريخ من نساء الظل في ركن قصى من التاريخ، فأول محاولة لتخليد ذكراها جاءت بعد قتلها بـ 15 قرنا عندما حول الروائي الإنجليزي تشارلز كينجسلي قصة حياة ومقتلها إلى عمل درامي في كتابه هيباتيا، عام 1851م، كما وصف ألبرت هابرت في كتابه رحلات إلى بيوت معلمين عظام السيرة الذاتية لهيباتيا، الذي تم نشره عام 1908م.
في عام 1980، أسس علماء العصر الحديث مجلة هيباتيا للنشر الأوراق العلمية الخاصة بالنساء والتي تتناول الدراسات الفلسفية ودراسات المرأة.
السينما العالمية تناولت قصة حياة هيباتيا في فيلم بعنوان آغورا عُرض سنة 2009 من بطولة - راشيل وايز، كما أن الدولة المصرية احتفت بها عبر وضع تمثال لها في ساحة الماسة بالعاصمة الإدارية الجديدة، تقديرا لجهودها وتخليدا لذكرها فهي أول شهيدة ضحت بحياتها بسبب أفكارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- تاريخ الكنيسة، يوسابيوس القيصري
- هيباتيا والحب الذي كان، داوود روفائيل خشبة
- الأيام الأخيرة من حياة هيباتيا، داوود روفائيل خشبة
- من هي هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية التى قُتلت بسبب معتقداتها
- هيباتيا من الإسكندرية