بأقلامهم
الدكتور محمد عبد العزيز يكتب : مظاهر سماحة الإسلام ويسره في فريضة الحج
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلاة وسلامًا على سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين -، وبعد .. فقد فرض الله على عباده حجَّ بيته الحرام، وهو الركن الخامس من هذا الدين، وهي فريضة عظيمة تستلزم استطاعة بدنيَّة وماليَّة ، ولأن الإسلام قائم على التيسير لا التعسير وعلى التخفيف لا التشديد، جاءت هذه الفريضة مقيدة بالاستطاعة، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [ آل عمران 97 ]، فمتى توافرت الاستطاعة وجب الحج، وإلَّا فلا .
ولم تتوقف مظاهر سماحة الإسلام ويسره عند عدم وجوب الفريضة على غير المستطيع ، وإنما تعددت صور التيسير ومعالمه لمن قام بأداء تلك الفريضة تخفيفًا على الحاج بما يتناسب مع قدرته واستطاعته، وهذا جليٌّ في العديد من مناسك الحج ، ومنها : تنوع طرق أداء الحج والتخيير فيها :
فالمتأمل فريضةَ الحج يجد أن المسلم مخيَّرٌ بين ثلاث طرق لأدائها؛ هي: الإفراد أو التمتع أو القِران، والإفراد هو: القيام بأعمال الحج فقط، والقران هو: الإتيان بالعمرة والحج معًا، والتمتع هو: تقديم العمرة على الحج والتحُّلل بينهما، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة، فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة، فليهل» قالت عائشة - رضي الله عنها -: فأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة [أخرجه مسلم] .
ومن هنا يتبين أنَّ كلَّ من أراد الحج فله أن يختار ما يناسبه من النسك، وليس هناك جبر على صورة وكيفية واحدة، وهذا واقع يؤكد سماحة الإسلام ويسره .
- تشريع الكفَّارات والتخيير فيها لمن ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام .
فالمسلم ليس معصومًا عن الوقوع في الخطأ، وهو معرَّضٌ للنسيان أيضًا ؛ فكل ابن آدم خطّاء، وعليه فإنه معرَّض للوقوع في محظور أو خطأ أثناء أداء فريضة الحج؛ ومن هنا شُرع لنا ما يجبر المحظورات وتداركها تيسيرًا على الحاجِّ، ليس ذلك فحسب بل جاءت الكفارة - أيضًا - على التخيير بين عدة أمور، يختار منها الحاج ما يناسبه، قال - تعالى - : ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ ، [ البقرة196 ] .
إنابة الغير في بعض الشعائر : كالذبح والرمي من صور التيسير والتخفيف في الحج أنَّ الشريعة أجازت للحاج إنابة غيره في بعض أعمال الحج كذبح الهدي ورمي الجمار، ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( نحر ثلاثاً وستين بدنةً ثم وكل عليًّا - رضي الله عنه - بالباقي ) ، [ رواه مسلم ] ، ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ ، [ البقرة196 ] .
وقد رأى الجمهور أنَّ للمرضى وكبار السن والصبيان والمرأة الحامل وغيرهم من أصحاب الأعذار جوازَ توكيل غيرهم في رمي الجمار، وذلك عملًا بعموم الآيات التي تفيد التيسير والتخفيف ، كقوله - تعالى - : ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ ، [ التغابن16 ]، وقوله - تعالى - : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ ، [ البقرة185 ]، كما ذكر القرطبي جواز الإنابة في رمي الجمار عن ابن عمر وفعله لذلك .
- تأخير بعض أعمال الحج كالطواف ورمي الجمار
يجوز للحاج أن يؤخِّر طواف الإفاضة إلى قبل مغادرته وسفره، فمن الممكن أن يؤدِّيَه الحاجُّ بعد اليوم الثالث عشر من ذي الحجة تخفيفًا وتيسيرًا، يقول النووي : " وقد أجمع العلماء على أنَّ هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالإجماع فإن أخره إلى ما بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء " ، [ شرح صحيح مسلم ] .
كما يجوز للحاجِّ – أيضًا - تأخير رمي الجمار وله أن يؤخر رمي يومي الحادي عشر والثاني عشر ويؤدي ذلك في يوم واحد، ففي الحديث أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ( رخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر ) ، [ رواه الإمام مالك ]
- التعجل في أداء فريضة الحج :
يحق للحاج أن يتعجَّل في يومين وينتهي من أعمال الحج ويعود إلى بلده؛ وهذا لا لشيء إلا تخفيفًا وتيسيرًا، قال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ ، [ البقرة203 ] .
وبناءً على ما سبق يتبيَّن لنا بجلاءٍ سماحة الإسلام ويسره وذلك في تقييد أداء الحج للمستطيع، ليس ذلك فحسب، بل تعدَّدت مظاهر التيسير لمن قام بأداء تلك الفريضة، ومن هنا يسقط كلام السفهاء الذين ينظرون إلى الحج على أنه تكليف بما لا يطاق، وايقاعٌ للضرر على الإنسان، فالتكليف عندنا مقرون بالاستطاعة وعدم إلحاق الضرر، فمتى لحق بالإنسان أي ضرر فلا تكليف، وصدق الله إذ يقول: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )[ البقرة203 ] .
ونختم مقالنا بذلك المشهد الواقعي من حج النبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ؟ ، فَقَالَ : « اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ » فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : « ارْمِ وَلاَ حَرَجَ » فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلَّا قَالَ : « افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ » [ صحيح البخاري ] .
كاتب المقال عضو مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية