تحقيقات وحوارات
مصير التمدد العسكري الخارجي بالعراق وليبيا.. عقب عملية الانتقال السياسي الوشيكة
مؤتمرات دول الجوار العربي نقلـة جديدة في السياسـات الإقليمية تجاه أزمـات المنطقـة .. طرابلس وبغداد نموذج
يتصــادف انعقــاد مؤتمــري دول جــوار العــراق ودول جـوار ليبيـا، فـي كل مـن بغـداد والجزائـر العاصمـة، فـي نهايـة شـهر أغسـطس الجـاري، ويجمعهمـا العديـد مـن القواسـم المشـتركة، مـن حيـث الشـكل ومضمـون جدول الأعمـال، لعـل أبرزهـا محاولـة فـض الاشـتباك بسـبب التدخــلات الخارجيــة، لاســيما مــن جانــب القــوى غيــر العربيـة، التـي تغلغلـت في كلتـا الدولتين- العـراق وليبيا- باسـتخدام الأداة العسـكرية ، ومـن المفتـرض أن يتطـرق المؤتمــران لمعالجــة الآثــار السياســية جــراء التمــدد العسـكري الخارجـي داخـل الدولتين اللتيـن تمران بعملية انتقـال سياسـي توشـكان علـى الانتهـاء، حيـث ستشـهد العـراق إجـراء الانتخابـات البرلمانية في أكتوبـر 2021، ويفتـرض أن تشـهد ليبيـا إجـراء الانتخابـات البرلمانيـة والرئاسـية فـى ديسـمبر مـن العـام نفسـه .
وهناك دلالات رئيسية عديدة يعكسها هـذا التزامـن فـي انعقـاد المؤتمريـن والتــي يتمثــل أبرزهــا وفق ما اكد عليه التحليل الاستراتيجي الصادر عن مركز العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة فـي الاتي :
- 1 محاولــة اســتدراك تداعيــات الغيــاب العربـي
خاصـة فـي الحالـة العراقيـة، وذلـك لســنوات طويلــة تقتــرب مــن العقديــن منــذ سـقوط نظـام الرئيـس العراقـي الأسـبق صدام حســين، مــا أفســح الطريــق أمــام القــوى الإقليميـة غيـر العربيـة للتمـدد داخـل العـراق بـا حواجـز، بشـكل كانت لـه تأثيـرات عديدة تتجـاوز التأثيـر السياسـي، لدولـة عربية لديها عمــق تاريخــي وحضــاري عربــي، ســعت إحــدى القــوى- إيــران- إلــى وضعهــا علــى مســار صــراع طائفــي إقليمــي، فــي حيــن حرصـت قـوة أخـرى- تركيـا- علـى توظيـف تمددهــا داخلهــا فــي ســياق إعــادة الترويــج لتاريخهـا خـلال الحقبـة العثمانيـة .
- 2 تحييــد التدخــلات الخارجيــة واســتعادة
التـوازن الإقليمـي
ففـي الحالـة العراقيـة، لا يعتقـد أن الرهـان الأساسـي هـو إعـادة العـراق إلـى الحاضنـة العربيـة بقـدر مـا يهـدف الأمر إلـى إعادة التـوازن الإقليمـي للعـراق، وعودتهـا لممارسـة دورهـا الإقليمـي كفاعـل رئيسـي بـدلاً مـن أن تظـل سـاحة لصراعـات إقليميـة متعـددة، وهـو مـا تعكسـه البيانات الرسـمية الحكوميـة والبرلمانيـة فطهران وأنقـرة ممثلتـان فـي المؤتمـر، ولا يعتقـد أن الهـدف هـو إبعادهمـا عـن السـاحة العراقيـة، وإنمـا ترشـيد الحضور علي تلك الساحة بحيث يكون انخراطهما مهدداً لأمن واستقرار العراق أو مستغلاً لها كسـاحة ضـد الأطـراف العربيـة، أو حتـى بعـض الأطـراف الدوليـة .
كذلـك فـي ليبيـا، لا يعتقـد أن الهـدف هـو إبعـاد تركيـا عـن السـاحة الليبيـة ولكـن ترشـيد الـدور التركي بمـا يحقـق الاسـتفادة لكلتـا الدولتين ، فالوجود العسـكري التركي في ليبيا يشـكل هاجسـاً خاصـاً بالأجندة والدوافـع التركيـة تجـاه دول الجـوار العربـي والأفريقـي ، وفـي الوقـت الـذي لا تعـارض تلـك الـدول أن تكـون هنـاك مصالـح مشـتركة علـى الصعيـد الثنائـي مـع ليبيـا ، أو علـى المسـتوى العربـى والأفريقي، فإنهـا تـرى ضـرورة وضـع ضوابـط تراعـي حسـاباتها وأمنها ومنظورهـا للتـوازن الإقليمي.
- 3 إعـادة الاعتبـار لمفهـوم سـيادة الـدول
على مدى سـنوات طويلة، سـاهمت التدخلات الإقليمية غير العربيـة، بشـكل ممنهـج، فـي عمليـة تـآكل سـيادة دول الأزمـات العربيـة، مثـل العـراق وسـوريا ولبنان وليبيـا، حيـث اسـتخدمت بعـض القـوى غيـر العربيـة أدواتهـا العسـكرية وشـبه العسـكرية فـي التدخـل فـي تلـك الـدول ، وفـي هـذا الصـدد، تكـرر القـوى الوطنيـة دعواتهـا لإنهاء مسـاعي التدخـل ومحاولات التأثيـر علـى القـرار السياسـي داخـل تلـك الـدول وقـد أكد رئيـس الـوزراء العراقي مصطفـى الكاظمي اكثر من كرة علي إن تدخلات بعض الأطراف الأقليمية تقوض سيادة العراق خلصة قي ظل توجه بعضها فـي إشـارة إلـى إيـران- إلـى تصفيـة حسـاباتها مـع القـوى الدوليـة، لاسـيما الولايـات المتحـدة الأمريكيـة، أو حتـى دول الجـوار العربـي علـى السـاحة العراقية، بما يؤثر على سـيادة العراق ، كذلـك فـي ليبيـا، فـإن البرلمـان الليبـي والجيـش الوطنـي الليبـي والعديـد مـن القـوى السياسـية الوطنيـة تعتبـر الوجـود التركـي بمثابـة انتهـاك لسـيادة البلد وتهديـد لأمنها واسـتقرارها .
- 4 تقويـض مظاهـر وآليـات التصعيـد المسـلح
يتسـبب الوجـود العسـكري الإقليمـي في بعـض الدول العربيـة فـى تأسـيس جبهـات صـراع محلـي واسـتقطاب سياسـي ففـي حالـة العـراق، سـاهم الوجـود الإيرانـي فـي انـدلاع صراعـات متعـددة، حتـى داخـل البيـت الشـيعي نفسـه، مـا بيـن التيـار الولائـي الموالـي لإيـران والتيـار الوطنـي الموالـي للمرجعيـة العراقيـة، فـي ظـل تبايـن المرجعيـة مـا بيـن "قم" و"النجـف"، علـى نحـو يثيـر مخـاوف عديـدة مـن أن يتحـول هـذا الصـراع مـن تنافـس سياسـي إلـى اقتتـال طائفـي ، وفـي ليبيـا، فـرض الوجـود العسـكري التركـي أزمـات عديـدة، منهـا تنامـي خريطـة المرتزقـة فـي البـلاد ، بالإضافـة إلـى تأثيـره علـى مسـاعي المصالحـة الوطنية داخـل البـلد التي عانت مـن التمـزق بيـن شـرق وغـرب وجنـوب خـال فتـرة الصـراع الطويلـة.
- 5 مسـاعي إنجـاح العمليـة السياسـية بـدول الأزمـات
تفـرض التدخـلات غيـر العربيـة فـي دول الصراعـات تأثيـرات مباشـرة علـى العمليـة السياسـية، خاصـة وأنـه يتصـادف أيضـاً أن كلتـا الدولتين- العـراق وليبيـا- تشـهدان عمليـة انتقـال سياسـي كمـا سـلفت الإشـارة ، ومـن المؤكـد أن القـوى الخارجية تراهـن علـى وصـول أطـراف سياسـية مواليـة لهـا إلـى السـلطة، بـل مـن الافـت للنظـر أن تلـك الأطـراف لا تسـعى فقـط إلـى مجـرد إشـراك المواليـن أو المحسـوبين عليهـا فـي السـلطة، وإنمـا تدعـم تكريـس هيمنتهـم عليهـا بشـكل كامـل ، وبالتالـي فـإن هـذه النوعيـة مـن المؤتمـرات تهـدف إلـى تعزيـز فـرص تحقيـق العمليـة السياسـية أهدافهـا الحقيقيـة، لاسـيما فيمـا يتعلـق بوصـول قـوى وطنيـة إلـى السـلطة بنـا ًء علـى رغبـات شـعوبها وليسـت انعكاسـاً لتوجهـات القـوى الخارجيـة.
فرص محتملة
مـن المتصـور أن مجـرد التفكيـر فـي إطلاق مؤتمـرات من هذا النـوع هو محاولة لمعالجـة الاختلالات السـابقة، مـع الوضـع فـي الاعتبـار أن تلـك الـدول لا تـزال تعانـي مـن حالـة هشاشـة علـى المسـتوى العـام ، فأزماتهـا ومشـكلاتها المتعـددة لا تتوقـف علـى التدخـلات الخارجيـة فقـط، وإن كانـت تلـك التدخـلات هـى العامـل الأكثـر تأثيـراً فـي أزمـات تلـك الـدول، حيـث تجـر خلفهـا العديـد مـن الأزمـات الفرعيـة ، فعلـى سـبيل المثـال، سـيتطرق مؤتمـر العـراق إلـى الأزمـات المائيـة وهـى مشـكلة أصبحت تـؤرق العـراق فـي ظـل قيـام تركيـا ببنـاء العديـد مـن السـدود، بالإضافـة إلى معالجـة مشـكلات الحدود فـي السـياق ذاتـه، وبالتالـى فـإن عمليـة الحـد مـن تلـك التدخـلات سـيكون لهـا أثـر كبيـر علـى خفض مسـتوى تلـك الأزمـات، ومـن ثـم فـإن تلـك المؤتمـرات- التـي يمكـن أن تتكـرر فـي المسـتقبل- توفـر فرصـة لتحقيـق الهـدف منهـا بشـكل تدريجـي ، بـل قـد تكـون مدخـلاً فـي المسـتقبل للتعامـل مـع أزمات عربيـة أخـرى، كمـا هـو الحـال فـي سـوريا واليمـن.
تحديات قائمة
فـي المقابـل، هنـاك العديـد مـن التحديـات المحتملـة أيضـاً، فـي ظـل غيـاب تصـور عربـي موحـد تجاه التعامـل مـع المشـكلات التـي أثارتهـا التدخـلات الخارجيـة، فضـلاً عـن وجـود تبايـن فـي العلاقات العربيـة مـع القـوى الإقليميـة فـي مناطـق الأزمـات.
فهنـاك دول تسـتضيف قواعـد عسـكرية لتركيـا، ولديهـا علاقات دبلوماسـية متناميـة مـع إيـران فـي الوقـت ذاتـه ، كذلـك لـم تحـد علاقات تركيـا مـع بعـض دول الجـوار الليبـي مـن تدخلاتها الصعبـة فـي ليبيـا ، بالإضافـة إلـى تبايـن علاقات الأطـراف العربيـة تجـاه الفاعليـن فـي دول الأزمـات، فضـلاً عـن وجـود منظـور آخـر لـدى القـوى الإقليميـة غير العربيـة المتدخلـة فـي الأزمـات العربيـة، حيـث أنهـا تترقـب المشـاركة، على سـبيل المثـال، في مؤتمر العـراق لإعـادة تقييـم وتدويـر مصالحهـا بشـكل أو بآخـر .
فـي المحصلـة النهائيـة، ربمـا تكـون مؤتمـرات دول الجـوار العربي نقلـة جديدة في السياسـات الإقليمية للتعامـل مـع أزمـات المنطقـة تخرجهـا مـن سـياق تعـدد الأطـراف، وتطـرح مقاربـة جديـدة للتعامل مع ملفـات الأزمـات والصراعـات فـي الـدول العربيـة ، وبمنطـق التكلفـة والعائـد، فـلا شـك أنه علـى الرغم مـن التحديـات الضاغطـة، إلا أن الفـرص المحتملـة ربمـا تشـكل عامـل دفـع للمضـي قدمـاً فـي هـذا المسـار وتكراره مسـتقبلاً .