منذ 54 عاماً وفي مقر الأمانة العامة لمنظمة الشباب ، كنت بمكتبي الكائن في 11 حسن صبري بالزمالك ، وكنت مستمراً بالعمل طول اليوم ، وكنا في أعقاب نكسة 1967 ، وكان قد تحدد ان جمال عبدالناصر سوف يتحدث إلي الأمة في السادسة مساء ، فقررت ان أبقي بمكتبي لأستمع لـ خطاب الرئيس ، وأنا وغيري يلفنا الألم ويعتصرنا الحزن ، وعلامات اليأس تحيط بنا من كل جانب ، وتحدث بعضنا إلي بعضا : " عبدالناصر حيقول ايه بعد هذه النكسة التي حلت بنا ، أليس هو ومن معه المسؤولين عن تلك النكسة وهم سببها " .
تحدث الرئيس الي الأمة بـ حزن وأسي
وانتظرنا متلهفين امام شاشات التليفزيون ، لنعرف ماذا سيقول في أعقاب تلك المصيبة التي حلت بمصر ؟! ، وإذا بـ عبد الناصر يخرج علينا في صورة لم يسبق لنا ان شاهدناه عليها ، هذا القائد الذي لم يكن قد أكمل التاسعة والأربعين من عمره ، شعره قد أشتعل شيباً ، ووجهه يحمل تجاعيد كهل قد جاوز السبعين ، ورأسه الذي لم يسبق ان أنحني أبداً قد مال إلي الأمام خجلاً ، وكأنه لايريد ان يواجه الناس ، وأخذ في شرح أبعاد النكسة وملابسات الهزيمة ، بـ ألم أحسب أننا لم نشهده من قبل في جمال عبدالناصر ، أما نحن فكنا جالسون نرقب ونتعجل ، ماذا سيقول بعد هذا العرض ؟! ، وإذا به يتحدث الي الأمة بـ حزن وأسي قائلاً : ... أنني أتحمل المسؤليه كلها ... ثم أردف وقال : لقد قررت ان أتنحي تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي ، وأي دور سياسي ، وأن أعود إلي صفوف الجماهير أؤدي واجبي معها كأي مواطن أخر ، وقد كلفت أخي زكريا محيي الدين بتولي مهام ومسؤوليات رئيس الجمهورية ، وسوف أضع نفسي للمساءلة حول أبعاد هذه النكسة متحملاً كل تبعاتها .
[caption id="attachment_683073" align="alignnone" width="600"]
محمد رجب يكتب: في مثل هذا اليوم هتفت الجماهير «أرفض أرفض يا زكريا عبد الناصر ميه الميه»[/caption]
من الزمالك إلي بولاق سيراً علي الأقدام
وبعد إنتهاء الرئيس من خطابه بلحظات ، إذا بالتليفونات تنهال عليَّ وأنا في غرفة العمليات المركزية من جميع المحافظات ، تعلن جميعها رفض التنحي ، وان هناك آلاف مؤلفة من الجماهير تتجمع علي محطات ووسائل النقل المختلفة ، كلُُ يبحث عن وسيلة نقل للذهاب إلي القاهرة ليجيئ ليعبر عن رفضه لقرار التنحي ، ولم يكن أمامي أي إمكانية للتصرف ، فكنت أقول لكل المتصلين كل واحد يتصرف حسبما يري ، وان كنت أنصح بعدم الحضور للقاهرة ، ولم تكن هناك اي قيادة موجودة للرجوع اليها ، وقررت أن أخرج إلي الشارع ، فحاولت ان أنتقل من الزمالك إلي بولاق من علي كوبري ابوالعلا سيراً علي أقدام ، لقد أصبحت القاهرة قي لحظة واحدة كتلة من البشر ، وأشتعلت المسيرات والمظاهرات ، وخرجت الهتافات التلقائية : أرفض أرفض يازكريا عبدالناصر ميه الميه " ، وهتافات أخري : متقوليش متقوليش عبدالناصر غيره مفيش ، وهتافات ثالثة : أنور أنور ياسادات عبدالناصر غيره ماينفعناش ، وغيرها من الهتافات والشعارات التي صنعتها الجماهير ، وكانت هذه هي اللحظة الفارقة ، التي اعلنت بها الجماهير تمسكها بعبدالناصر ، وهي اللحظة التي صنعت واقع جديداً ، والتي أستعاد من خلالها جمال عبدالناصر ثقته من دعم الجماهير .
[caption id="attachment_683072" align="alignnone" width="1280"]
محمد رجب يكتب: في مثل هذا اليوم هتفت الجماهير «أرفض أرفض يا زكريا عبد الناصر ميه الميه»[/caption]
إعاد بناء القوات المسلحة
وعلي هذا الأساس قرر عبدالناصر التراجع عن التنحي ، وانه سوف يبقي حتي إزالة أثار العدوان ، وأعتبر ان معركة إزالة أثار العدوان يجب أن تُسخر لها كل الإمكانيات والقدرات ، وكان الشعار وقتها : ليس هناك صوت أعلي من صوت المعركة ، ولا نداء أقدس من ندائها ، وأخذ علي عاتقه هذه المهمة التاريخية وأعاد تنظيم القوات المسلحة ، ووضع علي رأسها قيادة وطنية محترفة ، ونستطيع القول بأن جمال عبدالناصر إذا لم يكن القدر قد أتاح له العيش حتي يري إزالة أثار العدوان بنفسه ، إلا أن التاريخ يؤكد أن جمال عبد الناصر قد أنجز مهمة إعاد بناء القوات المسلحة ، التي أزالت أثار العدوان ، وحققت نصر اكتوبر العظيم ، والذي كان لوقفة الشعب المصري في يوم ٩ يونيه الفضل ، الأعظم .
[caption id="attachment_683075" align="alignnone" width="855"]
محمد رجب يكتب: في مثل هذا اليوم هتفت الجماهير «أرفض أرفض يا زكريا عبد الناصر ميه الميه»[/caption]
تحية لصاحب قرار الحرب الرئيس أنور السادات ، الذي قاد مصر لتحقيق النصر ، وإزالة أثار العدوان .
كاتب المقال المستشار السياسي لرئيس حزب الحركة الوطنية المصرية وزعيم الأغلبية السابق بمجلس الشوري
الدكتور محمد رجب يكتب: مناحم بيجن وراء فكرة إنشاء الحزب الوطني