بأقلامهم
الدكتور أحمد ربيع يكتب: «ليشهدوا منافع لهم»
جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيق منافع الناس الدينية والدنيويَّة، فتوخَّت رعاية المصلحة في تشريعها للأحكام، واستقر الفقه الإسلامي في سائر مدارسه على وجوب تحقيق مصالح الناس ومنافعهم، يقول العزُّ بن عبد السلام: والشريعة كلها مصالح؛ إما تَدرأ مفاسد أو تجلب مصالح.
جاء في المستصفى للإمام الغزالي: أن الأصل في المصلحة هي جلب منفعة أو دفع مضرة.. والمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
والمنفعة كمرادف للمصلحة متحققة في شعيرة الحج؛ كونها أحد أركان الإسلام، قال ابن عباس: (ليشهدوا منافع لهم): منافع الدنيا والآخرة; أما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات.
ويكفي أن الحج فيه مغفرة للذنوب ورفع للدرجات، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه-: «من أتى هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه" ( صحيح مسلم: 1350).
ومن منافع الحج التي لا تقع تحت حصر أنها لا تقتصر على من يؤدون فريضة الحج، بل تشمل سائر المسلمين، فدخول أيام ذي الحجة يحمل للمسلم الخير الكثير، فيستحب له فعل الخيرات واغتنامها رجاء نيل ثوابها، فهي أعظم أيام الدنيا، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" (حديث حسن صحيح: سنن الترمذي: 757).
كما أنَّ من منافع الحج بالنسبة لمن وفقه الله لأداء هذه الشعيرة، استشعار المسلم نعمة التوفيق لإكمال دعائم الدين؛ فالحج ركن من أركان هذا الدين، فرضه الله على المستطيع، يقول - تعالى -: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" (آل عمران: 97).
وقد جاء التعبير القرآني الكريم بصيغة التنكير للفظة" منافع" لتعم كافة أنواع المنافع التي تتفق ومقصد أداء شعيرة الحج، يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: فيحمل التنكير هنا على أنه من باب التعظيم، لكثرة ما ينال من الخيرات الدينية والدنيويَّة في حضور هذه المشاهد الكبرى، فإن في مجمع الحج فوائد جمة للناس، لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحًا في الدنيا بالتعارف والتعامل.
وقد أكد هذا المعنى الإمام النسفي في تفسيره لهذه الآية الكريمة، فقال: "ليشهدوا منافع لهم"، نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم أو بالمال كالزكاة وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء فالحج الحج.
ولا تقتصر تلك المنافع على المنافع الدينية من تحصيل الأجر ومغفرة الذنوب، بل تشمل منافع دنيوية سواء في صورتها المعنوية أو المادية.
فمن المنافع المادية ما يجنيه الناس من عوائد البيوع والتجارة التي تقام أيام موسم الحج، وأسواق عكاظ وذي المجاز قديمًا كانت تقام وتحدث رواجًا تجاريًّا في مكة المكرمة، فضلًا عن إتاحتها فرص إقامة الاتفاقات التجارية التبادلية بين المسلمين من كافة أقطار العالم.
كما أنَّ من صور المنافع المادية في موسم الحج ما يوزع على بلاد المسلمين الفقيرة من لحوم الهدي التي تراق في سبيل الله يقدمها الحجيج كمنسك من مناسك الحج.
أما المنافع المعنوية التي يحققها الحج فيتمثل في صور متنوعة؛ منها: الوقوف على مستجدات القضايا الملحة للعالم الإسلامي التي تفرض التعاون فيما بينهم واتخاذ موقف جماعي تتضامن فيه قواهم المختلفة لتحقيق الوحدة الإسلامية.
كما أنَّ التعارف فيما بين المسلمين على اختلاف مشاربهم ولغاتهم ولهجاتهم ليلقي في نفوس المسلين قوة إيمانية دافعة يترسخ معهم إيمانهم بظهور هذا الدين على سائر الأديان.
ومن ملامح العظمة في أداء تلك الشعيرة ما تعود به من شعور بقوة المسلمين وعزتهم وظهور تمسكهم بدينهم وممارستهم لشعائره من غير أن يمنعهم مانع جغرافي أو حاجز لغوي أو غير ذلك، فمن فرَّقتهم الجغرافيا وحَّدتهم العقيدة تحت إمام واحد يصلي المسلمون خلفه وفي بيت واحد يطوف المسلمون حوله، وعلى هدف واحد يقصده المسلمون وهو التقرُّب إلى الله - تعالى -.
نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لأداء شعيرة الحج وشهود منافعها .