بأقلامهم
زينب الباز تكتب: أم المحسنين.. سيدة القطر المصري الأولى
ارتبط بها الشعب المصري كما لم يرتبط بسيدة من قبل لدرجة أن مصر اهتزت كلها لوفاتها، ونعتها مجلة المصور بصفحتها الأولى التي حملت عنوان: "ماتت أم المحسنين وغربت عن مصر طالما كانت أشعتها واسطة الحياة لكثير من الفقراء"، وتوسط الصفحة صورتها مع الخديو توفيق، كما نشرت مجلة "العروسة صورتين نادرتين لها تحت عنوان: (صورتان نادرتان لفقيدة مصر العظيمة "أم المحسنين" وأعلن الحداد الملكى عليها لمدة عشرين يوما.
أنها الأميرة أمينة إلهامي الابنة الكبرى للأمير إبراهيم إلهامى بن عباس حلمى الأول بن طوسون باشا بن محمد على باشا من زوجته الأميرة منيرة سلطان، ابنة السلطان عبد المجيد الأول، وزوجة الخديوي توفيق ووالدة الخديوي عباس حلمي الثاني، والتي ولدت فى 24 مايو 1858، حرص والدها على تعليمها القراءة والكتابة باللغتين العربية والتركية وآداب الدين الإسلامي.
نالت الأميرة أمينة إلهامي العديد من الألقاب فهي صاحبة العصمة وأم المحسنين، الوالدة باشا، وجلالة الملكة، التي سخرت حياتها لفعل الخير فضربت أعظم الأمثلة في الجود والسخاء والبر والإحسان.
سيدة مصر الأولى
يقول المؤرخ المصري المعاصر الدكتور يونان لبيب رزق أن الأميرة أمينة ابنة إلهامي باشا ابن عباس الأول تزوجت الخديوي توفيق عام 1873 قبل توليه الحكم بست سنوات وكان حفل زواجها كبيرا جدا فرح به الشعب خاصة وأنها مشهورة بأنها طيبة وتحب أعمال الخير، وشيئا فشيئا ظهرت في المناسبات العامة التي يحضرها الخديوي توفيق أو يتغيب عنها، إذ حضرت الاحتفال باستعراض الجيش الجديد يوم 31 مارس عام 1883 كذلك كافة عروض الأوبرا الخديوية، سواءا كان الذي يقيمها بعض الفرق العربية أو الأوروبية مثل سارة برنار، كما حضرت الاحتفال بجبر الخليج في 6 أغسطس عام 1887 حيث سافرت من الإسكندرية إلى القاهرة خصيا لحضوره.
وبحسب المؤرخ يونان لبيب رزق تعد الأميرة أمينة إلهامي هي أول سيدة أولى في مصر لأنها كانت الزوجة الوحيدة للخديوي توفيق عكس الحكام السابقين له الذين كان لهم أكثر من زوجة ومستولدات لدرجة أن الخديوى توفيق نفسه أبن إحدى المستولدات شفق نور هانم، وكانت تجرى لها مراسم استقبال رسمية لها في كل مناسبة تحضرها.
جريدة أهرام يوم 23 سبتمبر عام 1887 نشرت على صدر صفحتها الأولى وصفا للمراسم التي كانت تحضرها أمينة إلهامي فتقول « في نحو الساعة الثالثة بعد أمس بارحت حضرة صاحبة العصمة والسمو حرم الخديوى المعظم بمعيتها السنة سراي رأس التين العامرة فأطلقت المدافع معلنة بذلك وكانت محطة الثغر مزدانة برايات وفيها العدد العديد من حضرات حرم الذوات يتقدمن البرنسات الكريمات وحرم دولتلو الغازي مختار باشا ثم العدد الكثير من ذوات الثغر وكبار موظفيه وأعيانه وتجارة يتقدن الجميع عطوفتلو مصطفى فهمي باشا ناظر الداخلية والحربية فاستقبلوا حضرتها بمزيد الاحتفاء ثم ركبت القطار الخصوصي وأطلقت المدافع من طابية كوم الدكة وقدم ذلك الجمع لسموها وجبات الوداع فسار بها القطار على الطائر الميمون ».
أم المحسنين
اشتهرت أمينة هانم إلهامي بحبها للفقراء وأوقفت أموالها لهم فعرفها الشعب المصري بلقب أم المحسنين حتى وصل صيت أعمالها إلى الباب العالي، سنة 1885، فتم منحها نیشان الشفقة المرصع الجيلي السامي.
أنجبت أم المحسنين خمسة أبناء: عباس حلمي، ومحمد توفيق، ونازلي، وفخر النساء خديجة، ونعمة الله، توفيت نازلي في طفولتها، ودرس عباس حلمي باشا في فيينا بعد وفاة والده، وصار خديوي مصر وهو في الثامنة عشرة من عمره، وتولى بعده شقيقه الأصغر محمد توفيق منصب الخديوي لعدة سنوات.
حرصت الوالدة باشا على تنشئة أبنائها على الأخلاق الحميدة فعندما سافر ولديها عباس، ومحمد، للدراسة بالخارج في سويسرا ثم النمسا، كانت بينها وبينهما رسائل متبادلة، ومن فحوى هذه الرسائل يظهر لنا أنها كانت ترسل لهما أن يحافظا على الصلوات في أوقاتها، ثم أوصتهما بتعلم الفنون والموسيقى وآثار البلاد، مما انعكس إيجابا عليهما فالخديوي عباس حلمي الثاني هو أبو المتاحف المصرية، ففي عهده تم إنشاء أغلب وأهم متاحف البلاد، كما أنه ساهم في ترميم وصيانة وحفظ الكثير من الآثار الإسلامية، وأنشأ لأجل ذلك لجنة عرفت بلجنة حفظ الآثار العربية والتي يرجع لها الفضل في حفظ ما وصل إلينا من المباني التراثية الإسلامية والقبطية، كما تم بناء المتحف المصري في التحرير ومتحف الفن الإسلامي.
أما ابنها الثاني الأمير محمد علي توفيق، فقد لقب بلقب ندر أن حمله أحد في تاريخ مصر، وهو محيي الفنون، حيث قام ببناء قصره المنيف في منطقة المنيل، وقام ببنائه إحياء وإجلالًا للفنون الإسلامية ثم أوصى بإهداؤه للشعب المصري بعد وفاته، وبالفعل تحول القصر إلى متحف.
المدارس الإلهامية الصناعية الزخرفية
تعد أم المحسنين سيدة التعليم الأولى في مصر، حيث أنشأت "المدارس الإلهامية الصناعية الزخرفية" المدارس الإلهامية الابتدائية للبنات والإلهامية الثانوية للبنين والإلهامية الصناعية، والمدرسة الإلهامية لبعث الطراز الفرعوني والإسلامي في الأثاث والزخارف وكانت تدعم كل من لديه موهبة في هذا النوع من الفن، وتنمي المواهب بين أبناء الشعب المصري، الذين خرج منهم الكثير من الفنانين، وأرسلت البعثات الدراسية على نفقتها.
كانت الأميرة أمينة شديدة التدين، حريصة على أداء الصلوات الخمس، وذهبت لأداء فريضة الحج أكثر من مرة وكان بيتها مفتوحا للضيوف، وامتنعت عن ارتداء المجوهرات بعد وفاة زوجها الخديوى توفيق ولم تكن ترتدي سوى عقد من اللؤلؤ عند حضورها حفلات الزفاف، وظلت ترتدي الثياب على الطراز العثماني وفقا للتقاليد العثمانية حتى وفاتها، وقد أقر من رأوها بأن تفوقها الحقيقي لم يأت من المال بل من النبل والبساطة.
في عام 1924 حدث خلاف شديد بين الوالدة باشا والملك فؤاد بسبب استيلائه على وقف جدتها بنبا قادن البالغ ألف فدان في محافظة القليوبية وكانت تنفق منه على أعمال الخير ولكنها فوجئت بعد عودته إلى مصر عام 1923 باستيلاء الملك فؤاد على الوقف الخيري، مستفيدا بسلطاته كحاكم للقطر المصري، لدرجة أن محمد على علوبة وزير الأوقاف الأسبق أكد ذلك في كتابة ذكريات اجتماعية وسياسية الذي كشف فيها كيف استغل الملك فؤاد سلطاته في السيطرة على الوقف الخيري، ولعل قصة خلافها مع الملك فؤاد وسؤء العلاقات بينهم كان سبب لتعرض هذه الشخصية العظيمة للتجاهل لعقود طويل وكادت أن تدخل طي النسيان لولا أن الشعب المصري كان يتذكر مأثرها وأفضالها.
عند عودة الوالدة، كانت هناك احتفالات كبيرة ساهمت المدرسة الإلهامية فيها باحتفال واصطف التلاميذ فى محطة القاهرة فى انتظار قدوم الوالدة كما نظم لها أمير الشعر أحمد شوقي قصيدة للترحيب بعودتها قائلا
ارفعي السِّتْر وحَيِّي بالجبين وأرينا فلق الصبح المبين
وقِفي الهَوْدج فينا ساعة نقتبسْ من نور أمِّ المحسنين
واتركي فضل زماميه لنا نتناوبْ نحن والروح الأمين
قد سقينا بمحيَّاك الحيا ولقينا حول يُمْناك اليمين
ثم يقول:يا مثالًا للعقيلات العُلا وكمالًا لنساء العالمين
جارة الإسلام في مِحْنته علِّمي الجاراتِ ممَّا تعْلَمِين
ذكِّريهن فروقًا وصِفِي طلعةَ الخَيْل عليها والسفين
ووليًّا للطواغيت بها كان يُدعَى بأمير المؤمنين
وفي 26 يونيو 1931 توفيت أم المحسنين في قصرها بتركيا الذي تحول فيما بعد لمقر للقنصلية المصرية في تركيا وأحضر ابنها الأمير محمد علي جثمانها من اسطنبول وأُعلن الحداد الملكي عليها 20 يومًا وحزن عليها المصريون حزنا شديدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• فؤاد الأول المعلوم والمجهول ص 10 : 12، 61، 69
• الدر الثمين في مأثر أم المحسنين ص 5، حامد علي المنزلاوي
• أعلام النساء1/95، عمر رضا كحالة