الفن
مسلسل حُطام..أفضل أعمال بطل طيور النار و علامة فارقة في الدراما التركية
مسلسل حُطام ..يشارك النجم التركي بوراك توزكوباران في بطولة مسلسل "طيور النار" بجانب النجمة ايلايدا اليشان، و مجموعة من الوجوه الصاعدة و النجوم الشباب، و رغم انخفاض و تراجع نسب مشاهدات المسلسل بشكل أسبوعي ، إلا أنه يحقق صدى واسع في تركيا و الوطن العربي، و يشهد اقبالاً عالياً في المبيعات الخارجية.
و الحقيقة ان النجم التركي بوراك توزكوباران لا يتمتع بالوسامة فحسب، بل أنه أيضاً لديه قدرات تمثيلية عالية و ظهرت واضحة منذ مشاركته الأولى في المسلسل التركي "حطام" الذي حقق نجاحاً هائلاً، و نسب مشاهدات مهولة، و كان حديث الجمهور في تركيا و الوطن العربي، و ذلك بسبب قصته المختلفة على الدراما التركية التي عادةً ما تهتم بالقصص الرومانسية في ذلك الوقت، و لكن كان هذا المسلسل هو العمل الدرامي الاجتماعي و العائلي المميز وسط عدد ضخم من مسلسلات قصص الحب منها "العشق الأسود" و "حب أعمى" و غيرها.
مسلسل حُطام :
و لنتحجث في السطور التالية عن هذا المسلسل الذي اعتبره من أفضل ما قدمت الدراما التركية على شاشاتها، فرغم اقتباس فكرة المسلسل من كوري في الأصل و تم اعادة تقديم الفكرة بأكثر من لغة و في أكثر من دولة، إلا أن النسخة التركية كانت هي الأهمق و الاصدق من حيث العرض و الطرح الدقيق لقضية شائكة.
عن ماذا يتحدث مسلسل حُطام ؟ هل عن تبديل طفلتين، كلاً منهن عاشت ظروف مختلفة عن الآخرى ؟ أم تساؤل عن من هم الأب و الأم الحقيقيين هل من أنجبوا أم من ربوا ؟ و هل كل من أنجب يستحق لقب أب أو أم ؟ السؤال الأهم الذي دارت حوله أغلب أحداث المسلسل هل اخلاق و سلوك الابن و الابنة يكون سبباً في تعلق الأب و الأم بهم أكثر من غيرهم ؟ حين يقف الأم و الأب في موقف اختيار بين الابن الذي تربى في كنفهم منذ نعومة أظافره و الابن الذي اكتشفوا وجوده متأخراً ...أيهما سيختار و في أيهم سيثق هل في الابن الذي يعرفه عن ظهر قلب أم في الابن الذي لا يعرف عنه أبسط الأشياء ؟ من هم الابناء الاكثر حظاً هل من تربوا في كنف أسرة ثرية أو من تربوا في كنف أم حنونة ذاقت المر من اجل تربيتهما ؟ هل الحرمان من حنان الأب يمكن أن يدمر الانسان و يسحقه و يجعله حطُاماً أم أن حنان قد يكفي ليجعل من الانسان سوياً بلا عقد أو اضرابات نفسية ؟
مسلسل حُطام :
إنها دراما طرحت كل هذه القضايا من خلال قضية واحدة، اختبرت كل مشاعر الأمومة و الأبوة من خلال عدد كبير من الأمثلة للأباء و الأمهات و الأبناء و البنات في محاولة لاستعراض القضية بمنتهى التفصيل و الدقة و شرح وافي لكل ما يدور في عقول الأباء و الأبناء.
باختصار شديد تتلخص قصة المسلسل الطويلة المثيرة للعواطف والمؤججة للمشاعر في خطأ خطير حدث في المشفى التي وُلِدت فيها بنتان في اليوم نفسه والساعة نفسها، وتقضي المصادفة أن لقبي عائلتيهما متشابهانِ حدَّ التطابق؛ فلقب عائلة البنت الأولى "جانسو" هو "جولبينار" ولقب عائلة البنت الثانية "هازال" هو "جوربينار" فتقوم الممرضة -مخطئةً- بتبديل البنتين بسبب هذا التشابه لتمنح عائلة "جوربينار" المولودة جانسو، وتعطي عائلة "جولبينار" المولودة "هازال".
مسلسل حُطام :
يتطلب اكتشاف هذا السر مرور خمس عشرة سنة حتى يتم إخبار كل عائلة أنها ربت بنت الأخرى؛ عائلة "جولبينار" تعاني التشتت والظروف المعيشية القاسية، بعد أن تخلى عنها الأب الأناني المستهتر وهاجر إلى ألمانيا هرباً من المافيا التي تطالبه بتسديد ديونه المتراكمة بالفائدة، الديون التي ستسدّدها الأم الشابة "جوليسران" عن طريق العمل لساعات طويلة كل يوم تاركة ابنتها "هازال" لوحدها أغلب الأوقات، ما سيؤثر على شخصيتها سلبًا حتى أصبحت تعاني من اضطرابات نفسية تدفعها لارتكاب حماقات كثيرة.
أما عائلة "جوربينار" فهي إحدى أغنى العائلات الاسطنبولية وتنتمي للطبقة المخملية الثرية جداً، بأب مثالي "جهاد" وأم كذلك "ديالار" بالنسبة لابنيهما "أوزان" و"جانسو".
بسبب خطأ الممرضة إذاً! تنقلب حياة العائلتين جذرياً ويصبح مصيرهما مرتبطاً إلى الأبد رغم أنهما عائلتان تنتميان لعالمين منفصلين، وهي القضية التي أثارت فضول وشغف المشاهدين وشدّتهم لمتابعة المسلسل ليعرفوا كيف ستتعامل الأسرتان مع هذا المستجد الطارئ.
المسلسل مقسم إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول سلط الضوء على محاولة تألقم الأب جيهان و الأم ديلار على وجود ابنتهم هازال في حياتهم، و ذلك لعدة أسباب أبرزها تصرفاتها الحمقاء و التي تسبب حرجاً كبيراً لهم وسط المجتمع الراقي الذي لا تعرف البنت كيفية التعامل معه، في حين أن الأم ديلار من الأساس أخذت تلك الأبنة من والدتها التي ربتها فقط كي تقطع كل الحجج على زوجها جيهان في لقاء تلك السيدة التي شعرت باعجابه الشديد بها حين رآى فيها الأم التي كان يتمناها لأبنائه، فهو كأب مثالي ليس له مثيل لا يقبل بأقل من أم مثالية تشاركه حياته مثل جوليسران و ليس أم عادية مثل ديلار.
حيث تمسكت الام ديلار بابنتها جانسو التي تربت في كنفها و لم تستطع تقبل تلك الفتاة الجديدة بسهولة و ساعد في الأمر طباع الفتاة الصعبة و كثرة مشكلاتها، لنجد الام ديلار في أول موقف تحتم عليها الأختيار فيه بين جانسو و هازال، اختارت الام ابنتها التي ربتها جانسو دون تردد و حاولت التضحية بهازال، تلك الفتاة التي لم تعجبها و التي هزت صورة الام المثالية لها في أعين المجتمع الذي تعرفه، الفتاة التي جعلتها لا تشعر بالفخر بها في أي شيء فالفتاة سيئة الطباع و همجية و شرسة و ليست على خُلق ، بل أنها ليست متفوقة دراسياً و ليست رياضية و لا تعرف كيفية التعامل مع الناس و لا تتحدث الانجليزية بطلاقة و لا تجيد تناول الطعام بالشوكة و السكينة.
على العكس من ذلك نجد الام جوليسران التي تتحمل كل طباع هازال السيئة، بل و حتى بعد أن طردتها هازال من حياتها شر طردة عقب اكتشاف أنها أبنة الأثرياء، نجد جوليسران تصر في السؤال عنها باستمرار و تمسكت بها رغم كل ما فعلته الأبنة من سوء في حق تلك الأم، و رغم أن ابنتها الحقيقية جانسو في غاية الأدب و الهدوء، و لكنها ظلت تحب هازال أكثر و ظلت هازال هي محور اهتمامها.
مسلسل حُطام :
تبديل الطفلتين لم يكن بمثابة الصدمة للأباء و الامهات و البنات فقط، بل كان له تأثير الزلزال على نفسية الابن الاكبر لجيهان و ديلار و هو أوزان / بوراك توزكوباران الذي حطمته فكرة أن تكون الفتاة التي يحبها و تعلق بها على مدار سنوات عمره و لا يعرف غيرها أختاً، ليست أخته و لا يربط بينهم أي رابط دم، بل هو أصبح مجبراً على اعتبار فتاة أخرى لا يتقبلها نهائياً على أنها أخته و عليه أن يحبها و ينزع حب الفتاة الاخرى من قلبه لانها ليست أخته، هذا الشاب الذي تلقى عدد ضخم من الصدمات على مدار أحداث المسلسل و لكنه ظل حتى النهاية متمسك بانسانيته و معدنه الاصيل و ظل شاباً خلوقاً و ذو قلب نظيف، حنوناً عطوفاً على كل من حوله، متسامحاً لأقصى درجة حتى مع جده الذي سجنه في مصحة الأمراض العقلية كي يمعنه من بيع أسهمه في الشركة حين هدد بذلك، وقد أدى بوراك توزكوباران دوره على أكمل وجه، رغم أنها كانت تجربيته الاولى للظهور على الشاشة.
ليجيب المسلسل هنا على تساؤل هل ما يعيشه الانسان مع عائلته هو السبب الحقيقي وراء سلوكه أم أنه يمكنه التمسك بالقيم و الأخلاق مهما كانت أفعال من يعتبرهم قدوة له من خلال شخصية أوزان الذي تربى على يد المربيات و الخادمات و لم تكن والدته تهتم به، كما كانت تفعل والدة هازال التي تعمل ليل نهاراً، لنجد أن الفتاة لم تكن رحيمة بوالدتها، بل كانت تسرق من أموال شقائها و تعبها المضني ليل نهار كي تشتري فستان لا تحتاج له، تكذب عليها و تخجل من مهنتها المتواضعة و تنكر والدتها أمام أصدقائها، و على النقيض نجد الشاب الآخر عزيز الذي تربى و نشأ و ترعرع بدون أب و على يد أم وحيدة، بل أنه كان يعمل و يساعدها خصوصاً عقب مرضها بالقلب و احتياجها لزراعة عضو جديد، إلا أنه رغم كل الحرمان الذي عاشه نجده انسان سوي خلوق من الدرجة الأولى، لا يمكن مقارنته بشباب هذه الأيام، فلا يمكن المقارنة بين عزيز و هازال رغم أن ظروف نشأتهم كانت متقاربة مع الفارق بين قلب الانثى الحنون في العادة و قلب الرجل الذي يتسم ببعض القسوة في العادة، فلا يمكن الالقاء باللوم على الظروف و التنشئة و لا يمكن أن تكون العائلة هي السبب الوحيد في تشكيل خُلق الانسان أو انحرافه الأخلاقي عن مصارها الطبيعي.
تُرى هل إذا كانت الفتاة جانسو هي الحقودة سيئة الطباع مفتعلة المشكلات و ليست مصدر فخر لأسرتها، و كانت هازال هي الفتاة الجيدة ذات الخٌلق و الأصل، هل كانت ستتغير الأمور، هل كانت الاسرة الثرية ستتمسك بهازال أكثر و تتخلى عن جانسو بسهولة ؟
في الحقيقة أن هذا الوضع لم يغفله صناع المسلسل أيضاً الذي أجابوا على كل تساؤلات المتابعين بخصوص هذا الموضوع المثير للحيرة و الدهشة، فبعد خطأ جانسو الفادح و زواجها من حبيبها عزيز الذي سبق و رفضه الأب جيهان و الأم ديلار، نجد أن أسرتها بالفعل تخلوا عنها تماماً و قطعوا أي تواصل معها، بل و طلبوا منها التنازل عن كل شيء باسمها و نقله باسم هازال، و حتى بعد طلبها الصفح من والدها الحنون و العطوف، لم يسامحها أبداً و رفض حتى ضمها إلى قلبه و لم تشفع دموعها و توسلاتها عنده بأي شكل، ربما لو كانت ابنته الحقيقية لاضطر لمسامحتها و لكنه بعد تمسكه الشديد بها و اصراره على احتضانها و عدم تخليه عنها، جعله هذا يشعر أنه كان عليها التمسك به هي أيضاً و اعطائه أكثر مما يجب على أي أب عادي الحصول عليه، لذلك كان ما فعلته بمثابة الشعور بطعنة غائرة في ظهره فُطِر قلبه على إثرها، إنها حرمته من أكبر فرحة يفرحها أيّ أبٍ بزواج ابنته بعد موافقته طبعاً.
مسلسل حُطام :
و لكن بعد اصابتها بمرض خطير و نادر، تعود مشاعر الأب لتجري في دمائه و يتبدل كل الغضب بالحب و الخوف من الفقدان و الحرمان من تلك الابنة التي اقتربت من الموت، و لكن ظلت هازال فيما بعد الابنة المفضلة و التي ينشغل بها الأب و الأم أكثر من جانسو المريضة.
في اختبار آخر لمشاعر الابوة نجد أن أوزان بعد اكتشافه في الحلقات الأخيرة من المسلسل أنه ليس ابن جيهان، بل أنه ابن هارون عدو العائلة اللدود و أن والده كان يعرف تلك الحقيقة و اخفاها عنه كي لا يشعر أنه غريباً في بيته، و كي لا يربي بداخله عقدة الشعور بتخلي والده عنه و تركه لأب آخر يربيه، ليجنبه كل العقد النفسية التي يمكن أن تحل به في وضع كهذا، نجده يحبه هذا الأب أكثر و يتعلق به أكثر، و يحاول أن ينحرف في اخلاقه و يفتعل المشكلات كي يرى هل سيقل اهتمام والده به بعد اكتشاف الحقيقة، أم سيبقى هذا الأب على حبه و عطفه مع هذا الولد الذي لم يكن من دمائه، ولكن تجاوز الاب جيهان كل اختبارات الأبوة بنجاح منقطع النظير كونه أب حنون لا مثيل له.
بل نجد الاب الثاني هارون الذي يتهم ابنه أوزان بخطف شقيقه الطفل الصغير بعد تغيبهم لبضعة أيام بسبب ظرف طاريء منعهم من الخروج إلى الطريق، و حين يوبخه جيهان و يسأله كيف يخبر الشرطة عن ابنه، يجيب الأب البيولوجي فقط أنه لا يهمه سوى طفله الصغير الذي تربى في كنفه و لا يهمه أوزان الذي لم يعرفه و لم يربيه و لم يعرف حتى أنه ابنه إلا قبل بضعة أيام.
في جلسة بين جيهان و الطبيبة النفسية نجده يسأل الطبيبة هل طباع الأبناء و سلوكهم يؤثر على درجة حب الاباء و الأمهات لهم، في مشهد آخر ذكر جيهان أنه في البداية وجد صعوبة في حب أوزان و هو يعرف أنه ليس ابنه، و لكن مع الوقت و لأن أوزان كان طفلاً بريئاً جداً و محبوباً من الجميع حتى من المارة في الشارع، بدأ يحبه و يتعلق به و لا يتخيل حياته بدونه، فهل إذا كان أوزان طفلاً سيء الطباع كان سيتخلى جيهان عن حبه ؟ أم أن جيهان من الاساس أباً غير عادي و لديه طاقة حب و عطف تكفي جميع أبناء الأرض، لأن والد ديلار كان يعاملها بقسوة شديدة و لا يحبها لأنه كان يعرف أنها ليست ابنته، و ذلك رغم أن ديلار كانت فتاة متميزة و متفوقة أكثر من شقيقتها الكبرى التي كان يدللها والدها رغم طباعها السيئة.
جيهان هو الأب الوحيد في المسلسل الذي لا يفاضل بين ابنائه، و لا يفرق بينهم أبداً و حين يوضع في اختبار بينهم نجده يجد الحلول للمساواة بين الأبناء، كي لا يثير غيرتهم من بعضهم أو يترك بداخل أحدهم جرحاً غائراً لا يُنسى.
مسلسل حُطام :
في النهاية لا يمكن أن نحسم الجدل في قضية الابوة و الأمومة بأي شكل كان لأن الأمر يتوقف على كل انسان على حدى، لا يمكن تصور حل واحد و حتمي وضروي في مثل هذا الموقف العصيب، و لكن نجح المسلسل في توصيل رسائل كثيرة أهمها أن سعادة الابناء أهم بكثير من سعادة الأبوين ، أن الانسان مهما كبر سيظل يحتاج للترابط الأسري كي يستطيع أن يبقى قوياً أمام الظروف، فهناك أباء يتخلون عن أبنائهم الذين من دمائهم، و أباء يربون أبناءً ليسوا منهم، بل يحبونهم أكثر من أسرتهم الحقيقية.
انها العائلة إما أن تصنع انساناً أو كومة عقد، و لكن أنا أقول انه الحب هو الذي يصنع انساناً مفعم بالحب، قد يحبك من رباك أكثر ممن أنجبك ، فالعائلة ليست رابط الدم، بل هي رابط الروح.
الممثل الرائع الأنيق "إركان بيتيكايا" في مسلسل «حُطام» لم يكن أبًا فقط، بل كان أيضاً سنداً لعائلته كلّها ومعلما حكيماً لأولاده في العديد من المشاهد، رغم أن أباهُ هو نفسه ليس أبًا جيداً، فليس كل الآباء يطمحون لأن يكونوا آباء مثاليين، لكن! ما أحوج العالَم والأطفال والأبناء لآباء كهذا الأب الفريد الذي يستحق بالفعل كلمة «أبي».
اخيراً هذا ما ينبغي للدراما الهادفة ان تقوم به، وهو بالظبط ما فعله صُناع هذا المسلسل إذ قدموا شخصية الأب المثالي كما ينبغي، ليكون قدوة لكل من شاهدوه، و يعلمهم كيف يكون الأب الحقيقي الذي يستغنى به الأبناء عن العالم أجمع، لذلك سيبقى هذا المسلسل من العلامات الفارقة حقاً في الدراما التركية، عمل فني متكامل بمثابة درساً للأسر في تربية الابناء و احتوائهم.