احتجاجات البصرة.. تراجع النفوذ الإيراني في العراق.. كيف تتعامل طهران مع احتجاجات بغداد؟
طال غضب المتظاهرين العراقيين المكان الذي تدار منه عملية اختطاف مدينة البصرة طيلة 15 عاما، فأضيفت القنصلية الإيرانية إلى مصاف مقار الأحزاب والميليشيات التابعة لنظام الملالي، التي أقدمت الحشود على اقتحامها.
ورغم أن إيران تحاول خلال الفترة الحالية تقليص أهمية الاحتجاجات التي تتصاعد في مدينة البصرة العراقية، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذه التطورات أثارت قلقًا واضحًا لديها، باعتبار أنها تطرح دلالات عديدة لا تنفصل عن الجهود التي تبذلها الأخيرة في الوقت الحالي من أجل دعم نفوذها داخل دول الأزمات، استعدادًا للاستحقاقات الاستراتيجية الصعبة التي يتوقع أن تواجهها خلال المرحلة القادمة، لا سيما مع وصول العقوبات الأمريكية المفروضة عليها إلى مرحلة تقليص مستوى الصادرات النفطية إن لم يكن وقفها بشكل تام بعد 4 نوفمبر 2018، بالتوازي مع اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ خطوات إجرائية لمواجهة تدخلاتها الإقليمية على الأرض.
ويتوقع الكثير أن تعيد إيران ترتيب حساباتها في العراق من جديد، بعد أن أدركت أن نفوذها الذي كونته طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية أصبح أمام اختبارات صعبة لا تبدو هينة، بفعل التطورات السياسية التي تشهدها الأخيرة، خاصة بعد إجراء الانتخابات البرلمانية في 12 مايو 2018.
دلالات عديدة:
كشف الاحتجاجات الأخيرة التي تشهدها مدينة البصرة عن دلالات عديدة تكتسب أهمية خاصة من جانب طهران: تتمثل الدلالة الأولى، في أن هذه الاحتجاجات طالت، للمرة الأولى، رموز النفوذ الإيراني داخل العراق، سواء مقر القنصلية الإيرانية أو المكاتب التابعة للميليشيات الطائفية الموالية لها، على غرار "الحشد الشعبي" و"كتائب عصائب أهل الحق" و"فيلق بدر" وغيرها.
وهنا، فإن تركيز المحتجين على هذه المقار يوجه رسالة واضحة بأن إيران وميليشياتها تتحمل قسمًا كبيرًا من المسئولية عن تفاقم الأوضاع المعيشية داخل البصرة، في ظل انهيار البنية التحتية، وعدم توافر الخدمات الأساسية من المياه والكهرباء والتعليم والصحة وانتشار ظاهرة الفساد داخل المؤسسات الحكومية التي لم تستطع التعامل بإيجابية مع تلك المشكلات.
وبعبارة أخرى، فإن المسألة لم تعد تتعلق فقط بدور إيران في أزمة نقص الكهرباء التي واجهتها المحافظة في الشهور الأخيرة، رغم أهمية ذلك، وإنما ترتبط أيضًا بدور إيران في استنزاف الخزينة العراقية في ممارسة أنشطة واتخاذ خطوات تتوافق مع مصالحها في المقام الأول.
ولذا، فإن اتجاهات عديدة باتت ترى أن محاولات إيران ممارسة ضغوط على العراق، وتحديدًا على حكومة حيدر العبادي، خلال الشهور الأخيرة، ولا سيما بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، عبر العمل على تأجيج أزمة الكهرباء، أنتجت في النهاية تداعيات عكسية، باعتبار أنها ألقت بمزيد من الأضواء على التأثيرات السلبية التي يفرضها نفوذها داخل العراق على الأوضاع المعيشية والبنية التحتية، على نحو انعكس حتى في الشعارات التي رفعها المحتجون وفي مقدمتها شعار "إيران..برا برا" في إشارة إلى تزايد المطالب بإنهاء أو مواجهة نفوذها داخل العراق.
ويبدو أن إيران باتت تدرك مدى اتساع نطاق الاستياء داخل العراق إزاء نفوذها، على نحو دفعها إلى إيفاد وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي على رأس وفد أمني وسياسي رفيع المستوى إلى العراق، في 5 سبتمبر الجاري، لإجراء مباحثات حول سبل حماية المصالح الإيرانية في العراق بعد استهدافها من قبل المحتجين، فضلاً عن استدعاء السفير العراقي لديها لإبلاغه احتجاجها على اقتحام قنصليتها في البصرة.
وإلى جانب ذلك، تماهى خطاب إيران مع رؤى القوى الطائفية التابعة لها في التعامل مع تلك الأحداث، عبر اتهام "مندسين" و"قوى خارجية" بتأجيج الاحتجاجات، وذلك من أجل صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاعها، وهى الآلية نفسها التي اتبعتها إيران في مواجهة الاحتجاجات الداخلية التي شهدتها في الفترة الماضية.
اتجاه متصاعد:
وتنصرف الدلالة الثانية، إلى أن هذه التطورات تضفي وجاهة خاصة على الترجيحات التي تشير إلى أن نفوذ إيران السياسي في بغداد يتراجع، وهو ما يبدو جليًا في مؤشرات عديدة، مثل تراجع ترتيب القوى السياسية والطائفية القريبة منها في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 12 مايو 2018، على غرار ائتلاف "الفتح" الذي يقوده هادي العامري أمين عام ميليشيا "فيلق بدر" وائتلاف "دولة القانون" برئاسة نائب الرئيس نوري المالكي، لصالح بعض القوى التي كانت حريصة على الاحتفاظ بمسافة ما معها، وفي مقدمتها ائتلاف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر وكتلة "النصر" بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي وتيار "الحكمة" برئاسة عمار الحكيم وائتلاف "الوطنية" بقيادة أياد علاوي.
هذا التراجع لم ينحصر فقط في النتائج، وإنما امتد أيضًا إلى المعطيات التي فرضتها، حيث لم تنجح إيران حتى الآن في فرض رؤيتها الخاصة بتشكيل الحكومة، وإن كانت حريصة في الوقت نفسه على وضع عراقيل أمام تشكيل حكومة تحظى القوى غير المحسوبة عليها بالأغلبية فيها.
ولذا كانت العلاقة مع إيران محورًا رئيسيًا في الفرز السياسي الذي تشهده الساحة العراقية في الوقت الحالي بين فريقين يحاول كل منهما الفوز بتشكيل الحكومة الجديدة عبر تكوين الكتلة الأكبر في البرلمان، وإن كان ذلك لا يعني أن هناك قطيعة تامة بين إيران والقوى التي انضمت للمحور الذي يضم "سائرون" و"النصر" و"الحكمة" و"الوطنية"، حيث أن بعضها ما زال حريصًا على تأسيس علاقات متوازنة مع الأخيرة.
واللافت في هذا السياق، هو أن كلا الفريقين يحاول استغلال الاحتجاجات الحالية التي تشهدها البصرة من أجل تعزيز فرصه في حسم السباق المستمر على تشكيل الحكومة الجديدة، على نحو بدا جليًا في مطالبة ائتلاف "الفتح" باستقالة حيدر العبادي من منصبه لفشله في التعامل مع الأزمة التي فرضتها تلك الاحتجاجات.
مواجهة مفتوحة:
أما الدلالة الثالثة، فتتعلق بأن أى تطورات قد تشهدها العراق ولا تتوافق مع مصالح طهران، على غرار تشكيل حكومة عراقية جديدة لا تضم حلفائها أو يتراجع نفوذهم فيها، تعني في المقام الأول، وعلى الأقل نظريًا، نجاحًا للاستراتيجية الجديدة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاهها، والتي تقوم على توسيع نطاق المواجهة معها لتشمل، إلى جانب الاتفاق النووي، كلاً من الدور الإقليمي، خاصة في دول الأزمات، وبرنامج الصواريخ الباليستية.
ومن هنا، يمكن تفسير أسباب مسارعة إيران إلى توجيه انتقادات قوية لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بعد التصريحات التي أدلى بها، في 8 أغسطس 2018، وأعلن فيها التزام بلاده بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران، قبل أن يتراجع عنها ويشير إلى أن بغداد ستلتزم بعدم التعامل مع إيران بالدولار الأمريكي فقط.
واعتبرت جهات عديدة داخل إيران أن ذلك لا يتسامح مع الجهود التي بذلتها الأخيرة لدعم بعض القوى الطائفية، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق صدام حسين، عندما استضافتها قبل أن تعود إلى العراق بعد سقوط الأخير، لتسيطر على السلطة بدعم من جانب الأولى.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن ما سوف تؤول إليه التطورات السياسية والأمنية في العراق سوف يكون له تأثير مباشر على المسارات المحتملة للمواجهة المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن وضعت الأخيرة كبح نفوذ الأولى في المنطقة على قمة أولوياتها في المرحلة الحالية.