علي الشرفاء الحمادي يكتب : عندما توقف إشعاع التشريع الالهي

حين خفتَ صوت الوحي وأنقطع .. ثم .. ثم أُسدل الستار على حياة رسول الرحمة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم .. ارتفعت كثير من أصوات البشر بالتأويل والافتراء علي الرسالة الإلهية المنزلة من السماء .. فتراجع إشعاع التشريع الإلهي .. وتقدّمت الأهواء .. وغاب المنهاج الرباني .. وتقسمت أمة الاسلام إلي مذاهب وشيع وطوائف يقتل بعضهم البعض باسم الشرع والدين .
غرقت أمة الإسلام في متاهات من صنع البشر .. وبدأت الأرض تميد برجالٍ لم يرثوا عن النبي هديه ورحمته وعدله وسماحته .. بل انحرفوا عن مسار الدعوة وورثوا سلطة وهوى .. وولّوا وجوههم شطر ظلال الفتن والحروب والصراع علي الحكم .. باسم الدين والدفاع عن الاسلام .
.. وفي تلك الحقب المريرة من تاريخ الأمة التي اصيبت بـ الوهن .. برز علي السطح شيوخ وعمائم افتوا في أمور الدين والدنيا .. ودسوا اسرائيليات وروايات في كتب التراث تؤجج الفرقة .. وتشكك في صميم العقيدة .. حتي لوثوا نقاء الهدي القرآني بطين التاريخ .. وسواد الروايات الغير مدققة والمشكوك في صحتها واصلها .. و .. و هنا كانت نقطة البداية التي غيرت مجري التاريخ لـ خير أمة أخرجت الي الناس .
سيدنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام لم يكن مجرد رسول .. بل كان تجسيدًا حيًا للرحمة الربانية التي بعث الله بها كتابه الكريم .. عاش في الناس قرآنًا ناطقًا .. أخلاقه هي الوحي .. وعدله هو شرعة السماء .. لم يحمل سيفًا ليُكره .. بل حمل قلبًا يوقظ .. ولسانًا يُبلّغ .. وخلقًا يُعلّم .. فكان كما وصفه الرحمن الرحيم في قرآنه الكريم : " .. وإنك لعلى خلق عظيم ".. وقوله تعالي : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآ خر وذكر الله كثيرا " .. صدق الله العظيم .
لكن ما إن غاب هذا الجسد الشريف .. حتى تسلّل الطامعون تحت عباءة الدين .. فزيفوا .. وحرّفوا .. وابتدعوا ما لم يأذنبه الله .. وهنا كانت الانتكاسة .. نعم انتكست الأمة لا بفعل الجهل وحده .. بل بخيانة النور الالهي .. حين تواطأ فقهاء الظلام مع الطامعين في السلطة .. وركبوا موجة الدين ليُطفئوا نور الله بأفواههم .
لقد جاءت الرسالة الإلهية لـ تمنح الإنسان حريته لا لـ تسلبها .. لـ تكرّمه لا لـ تُذلّه .. لـ تُخيّره لا لـ تُجبره .. " لا إكراه في الدين " لم تكن شعاراً .. بل كانت حجر الزاوية في المنهاج الرباني .. رسالة تُنزل الناس منازلهم دون نظر إلى عرقٍ أونسبٍ أو مذهب .. وتدعوهم إلى التعارف والتكامل .. لا التنازع والتباغض .. لكن في غفلةٍ من الزمن .. انقلبت الموازين .. وأصبحت الدعوة إلى الله تُدار وكأنها شركة احتكارية .. يُوزَّع فيها " صك الغفران " على من يُطيع الشيخ لا من يقرأ الآية .. صار الدين سلاحًا لا رسالة .. وصوت الرحمة غائباً خلف صراع المكفّرين الذين ساقوا الأمة إلي مصيرها المظلم .
فأيُّ جرمٍ هذا الذي ارتُكب حين حُوّلت رسالة الرحمن إلى مشروع سياسي يُقصي .. وأداة تخويف تُرهب .. وأيّ خيانةٍ أفدح من أن يُستبدل منهاج السماء بأهواء الرجال .. لقد رسم الله للناس طريقاً واضحاً حين قال : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى" .. فمن أيّ وادٍ هلكنا .. وإلى أيّ دركٍ سقطنا ؟
إن ما أصاب الأمة من تمزّقٍ ودماء .. ما هو إلا نتيجة حتمية لهذا الانحراف الجذري عن روح الوحي .. من تخلّى عن النور لا يلوم إلا نفسه إذا ما عاش في ظلمةٍ لا تنتهي .. وإذا ما استوطن الخوف قلبه وسكنت الفوضى عقله وفقد الإيمان بوصلته.
ونحن هنا لا نكتب كلماتٍ تُزيّن الورق .. بل ننفخ في روحٍ ذابلة .. ونوقظ ضميرًا أغلق بخطابٍ ديني مسموم .. دعوتنا ليست موجهة للجسد بل للعقل الحرّ .. الذي لا يزال يبحث عن الله في كتابه .. لا على منبر شيخٍ أو في جلباب فقيه.
رسالتنا تقول للناس ببساطة : افتح المصحف .. واقرأ كتاب الله بنفسك .. لا تدع أحدًا يُفكر بالنيابة عنك .. فإنك إن صدقت الله وسمعت نداءه .. كنت ممن وعدهم سبحانه وتعالي بقوله : " يُريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمنوره ولو كره الكافرون " .. صدق الله العظيم .
فاختر يا مؤمن .. إما أن تكون من الذين اتبعوا النور فاهتدوا به وارتقوا .. أو أن تبقى في الزيف تعيش الخديعة .. وتصحو يوم الحساب على حسرةٍ لا تنفع .. فهل إلى رجعةٍ من سبيل؟ .. والله ما أُغلق الباب بعد .. وما انقطع الوحي عن القلوب الصادقة .. وما غاب الدستور .. لكن الناس هجروه .
فإن كانت القلوب قد صدئت .. والضمائر قد نامت .. فإن في كتاب الله ما يوقظ .. وفي نوره ما يُبدّد كل ظلام .. فعد إلى القرآن قبل أن تُغلق الصحائف .. وتُغلَق الأبواب .. دع صوت الله يعلو على ضجيج الفقهاء .. واستجب لنداء الحق .. فالفرصة لا تدوم .. والموعد آتٍ لا محالة .. اللهم اني قد بلغت .. اللهم فاشهد .