بأقلامهم
د. رجب سالم يكتب: النبيُ صلى الله عليه وسلم.. اليتيمُ الذي ربَّى أُمَّة
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد...
تتميز بعضُ الصفات الخَلْقية والخُلُقية باستقلاليتها وعدم نسبيتها، فلا تتغير قيمتها ومكانتها بقيمة ومكانة الموصوف بها، كالعدل والصدق والشجاعة فهذه صفات ممدوحة دائماً، وذلك على النقيض من صفات أخرى تختلف مكانتها باختلاف الموصوف بها؛ فقد تكون في حق بعض الموصوفين بها صفات نقص، وفي حق آخرين صفات كمال.
وإذا ما نظرنا لصفات النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الجانب وجدنا أن بعض الصفات المتعارف على كونها صفات نقص في حق البشر-في الغالب الأعم- قد اكتسبت معنى الكمال والفضل لما ارتبطت بالجناب النبوي الشريف؛ ومن هذه الصفات:
صفةُ اليُتم
من المعروف أن النبي ولد يتيم الأب، فقد توفي أبوه عبدُ الله بن عبد المطلب وأمه السيدة آمنة حامل به، كما أنه صار يتيمَ الأم وهو لايزال في السادسة من عمره، وكذلك فقد توفي جده عبد المطلب الذي تولى كفالته وهو في الثامنة من عمره.
ولا يمتري أحد أن صفةَ اليُتم ليست من الصفات التي يمكن اعتبارها من صفات الكمال في البشر، سواء عند العرب أو غيرهم، فمن المشهور في كتب السيرة أن يتم النبي كان سبباً في عزوف المرضعات عن إرضاعه، حتى رضيت به السيدة حليمة السعدية، فكانت أعظمهن حظاً ونصيبا.
إلا أننا لو نظرنا إلى يُتم النبي لوجدنا أنه كان صفةَ كمالٍ في حقه، على خلاف طبيعة هذه الصفة، ولعلَّ السِّر في ذلك -والله أعلم- أن الله قد أراد أن تكون تربية وتنشئة النبي خالصةً له وخالية من أي تأثير لأي مخلوق، فمن المعلوم أن الطفل -أي طفل- يتأثر بطباع أبيه وأمه، وكذلك أجداده وغيرهم ممن يقومون على شأنه ويعتنون بتربيته وتأديبه، أما هو فقد اصطنعه اللهُ على عينه، وشاءت أقدار الله أن يمنع عنه أي تدخُّل بشري يؤثر في تأديبه وتربيته وتعليمه.
ولعلنا نلمحُ إشارةً لذلك في قوله: (أدَّبني ربِّي فأحسنَ تأدِيبي) ، فكأنه يُعلل ما أودعه الله فيه من الصفات الحميدة والأخلاق العالية العظيمة التي لا تضاهيها صفات أي بَشَريٍ آخر، بأن السبب في ذلك هو أن عناية الله شملته منذ صغره، وتولت جميع أمره، دون أن يكون للبشر دخلٌ في ذلك؛ فكان ما كان من صفاء جوهره، ونقاء معدنه، وعُلُوِّ أخلاقه .
وكذلك فإن من الحِكَم في يُتم النبي أن الله لم يُرد أن تكونَ لأحد غيرِه مِنَّةً عظيمةً على رسوله ، فكما هو معلوم فإن فضل الوالدين على أولادهما لا يعادله فضل، فلو لم يكن يتيماً لكان لوالديه عظيم المنَّة والفضل عليه، ولكن أبى الله سبحانه أن يكون لأحد من البشر مثلُ هذه المِنَّة على نبيه، ولذلك فقد تعلق قلب النبي بربِّه منذ صغره، وتوكل عليه وحده حق التوكل، ولم يكن يسأل أحداً من البشر شيئاً، ولا يطمع في خير عند الناس، بل كان متوجهاً بكلِّيَّته إلى ربه معتمداً عليه في جميع شؤونه.
كما أن يتم النبي يُعد من الآيات الدَّالة على صدق نبوته؛ إذ كيف يمكن ليتيمٍ فقد عنايةَ ورعايةَ الأب والأم والجد أن يكتسب كلَّ هذه المعارف والشمائل التي تؤهله ليكون قائداً وقدوةً ومعلماً للبشر جميعاً، إذ لو لم تكن عنايةُ الله وحفظُه وتوفيقُه قد شملت هذا اليتيم لما تحقق ذلك.
ولله در القائل واصفاً رسول الله ، ومُلَمِّحاً لهذا الأمر:
يتيم صانه المولى فأضحت * له كل الأنام من العيال
وصلَّى اللهُ على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه وسلَّم