بأقلامهم
زينب الباز تكتب: ست الملك.. خليفة الدولة الفاطمية الخفي
قادت الدولة الفاطمية في سنوات عصيبة، كادت أن تعصف بها، بفضل حكمتها وسدادة رأيها ورجاحة عقلها، فكانت الحاكم الفعلي للدولة في حقبتين زمنيتن، عرف عنها دفاعها عن الشعب والنساء من خلال موقفها الرافض لقرارات الخليفة الحاكم بأمر الله الجائرة بحق النساء ونجحت في إنهاء أكثر من سبع سنوات من القمع بحقهن، كما سبقت عصرها وامتلكت نزعة ديمقراطية، فكانت تعمل لصالح الشعب إذ عملت كوسيط بينه وبين الخليفة بعد تقديم الشكاوى لها مما جعل علاقتها تسوء بأخيها في نهاية الأمر حتى أنها أتهمها في شرفها.
محركة الأحداث
أنها ست الملك، التي لم تنل حقها من التكريم والإنصاف بسبب كونها إمراة في عصر لا يعترف سوى بالرجال، رغم أنها حكمت الدولة الفاطمية في فترة حرجة وحركت الأحداث من خلف الستار، وتقود الرجال من وراء حجاب، وتوقف الدسائس أو تشعل الفتن بما يأتي في مصلحتها أو مصلحة البلاد، فكانت تستحق أن تكون من أكثر الشخصيات النسائية شهرة في التاريخ الإسلامي لقدرتها علي الحفاظ على الدولة الفاطمية المترامية الأطراف والتي كانت تضم وقتها مصر والشام وأجزاء من العراق مع الحجاز وشمال أفريقيا، وأدارتها بذكاء ودهاء منقطع النظير، وهذا ما أكدته دراسة بحثية حديثة للدكتورة سماح محمد صبري مدير الوعي الأثري والتنمية الثقافية بالدقهلية بوزارة السياحة والآثار، والتي أشارت إلى أن خمسين إمرأة حكمن الأقطار الإسلامية على مر التاريخ كانت أولهم ست الملك التي كانت الحاكم الفعلى للدولة الفاطمية على فترتين الأولى عندما كان أخياها الحاكم بأمر الله صغيرا والثانية، في عهد أبنه الظاهر لإعزاز دين الله، حتى وافتها المنية.
ولدت ست الملك في قصر المنصورية في شمال إفريقيا تونس حاليا في عام 970، وكان والدها العزيز بالله الذي تولى حكم الفاطميين منذ 975 وحتى 996، أما والدتها فقد كانت محظية تشير إليها بعض المصادر بـ السيدة العزيزية وهي حسناء من أصول يونانية بيزنطية، أوقعت العزيز في غرامها، ويروى أنها كانت مسيحية رفضت اعتناق الإسلام، لذا كانت سببا وراء تسامح العزيز مع المسيحيين واليهود وتسليمهم مناصب هامة في الدولة، ولعل أبرزهم عيسى بن نسطور الذي كان واحداً من الوزراء ورجال الدولة المهمين في العصر الفاطمي، ورثت ست الملك العديد من الصفات من والدتها، فقد عرفت بذكائها وجمالها وحنكتها.
وفي عام 973، انتقلت عائلة العزيز إلى مصر، كانت ست الملك محبوبة والدها المفضلة، فقد أمطرها العزيز بالهدايا والأموال، حتى أنه وضع وحدة عسكرية خاصة تحت تصرفها، وعندما بلغت ست الملك سن الرشد، بدأت بالمشاركة في أمور الحكم والسياسة في القصر الفاطمي، واستخدمت ثروتها لتمويل العديد من الأوقاف الخيرية، وكانت كلمتها مسموعة حتى أن شفاعتها أعادت الوزير عيسى بن نسطور إلى منصبه بعد أن تم فصله، إلى أن توفي والدها فجاة عام 996 أثناء إعداده لحملة عسكرية ضد البيزنطيين، كان ولده الحاكم بأمر الله الوريث الشرعي للحكم يبلغ من العمر 11، فساعدته ودعمته بخبراتها السياسية التي أكتسبتها من والدها، ولعبت دور كبيرا في الحفاظ على عرش أخيها الصغير.
خلافة الحاكم بأمر الله
في البداية كانت الأمور تحت سيطرة الخادم ابن عمار، والذي كان يسيطر على «الحاكم بأمر الله»، وهو ما لم ينل أعجابها، فأقنعت أخاها ليعزلا ابن عمار بعد أن استمالا خادمهما المطيع الوزير «برجوان» لهما، وفي بالهما إنه سيكون افضل من «ابن عمار»
وبسبب هذا الانتصار السياسي والانفراد بالسلطة، قامت «ست الملك» بإهداء أخيها «الخليفة – الحاكم بأمر الله»: «ثلاثين فرساً مرصعة بالذهب والبللور وعشرين بغلة وخمسين خادماً ومائة تخت ثياب وتاجاً مرصعاً وأدوات ثمينة وتحفة فنية عبارة عن بستان من فضة مليء بالأشجار».
لم يهنأ الأخوان الحاكم بأمر الله وست الملك بهذا الانتصار، ذلك لأن الخادم الجديد «برجوان»، الذي سميت إحدى حارات القاهرة باسمه وهي حارة برجوان الواقعة أمام مسجد الحاكم بالله حتى الان، قد بدأ ينفرد بالحكم ويستبد بالأمر، وكون لنفسه حرسًا خاصًا، كما قام بعقد صلح مع خصومه السابقين ومنهم «ابن عمار» ذاته، في مقابل اعترافهم بسلطانه.
ولم يكتف «برجوان» بذلك، بل إنه بدأ يتلاعب بهذا الصغير – الحاكم بأمر الله – ويستخفّ به ويسيء معاملته، وينهب أموال العامة، ويقال أن ثروته بلغت أكثر من مائتي مليون دينار وخمسين أردباً من الدراهم والفضة واثني عشر صندوقاً من الجواهر بالإضافة إلى الممتلكات العينية.
ظل الخادم «برجوان» في طغيانه وفساده واستهتاره بالخليفة، ولم ينتبه إلى أن الخليفة صار شابًا وأخته تتابع ما يحدث ولا ترضي به، فخططت ودبرت، وبالفعل استطاعت «ست الملك» الاطاحة برقبة «برجوان» عندما استدعاه الخليفة وقتله بينما هي تقف خلف الستار حينها، خوفًا من ردة فعل أعوان برجوان، أو الانقلاب على الخليفة.
توتر العلاقات
ولفترة من الزمن، بقيت العلاقات طيبة بين ست الملك وشقيقها الحاكم حتى أنه تزوج إحدى جارياتها، كما أنها تدخلت لإحباط مؤامرة كان يحيكها بعض الوزراء ضد أخيها، لكن الحال لم يبق هكذا على الدوام، إذ بدأ يرفض نصائح ست الملك ضاربا بعرض الحائط كل ما قدمته للدولة الفاطمية، فرغم خبرتها مقارنة به عمل على إبعادها عن القصر متهماً إياها بسوء المسلك وهددها بإرسال القابلات لفحصها؛ كل ذلك من أجل إسكاتها.
يقول المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء إن السبب في قتل الحاكم بأمر الله للقاضي مالك بن سعيد: أنه اتهم بموالاة ست الملك شقيقة الحاكم.
ويذكر المؤرخون أن الحاكم بأمر الله قال لأخته في مقابلة عاصفة بينهما: أنت حامل، وقد رماها بالفجور والفحشاء، في وقت تجاوزت فيه ست الملك الخمسين من عمرها.
ويقول المؤرخ ابن الأثير الجرزي في كتابة الكامل في التاريخ سرعان ما بدأ الحاكم بأمر الله يصدر أحكاما تعسفية بل ومجنونة في بعض الأحيان، وعانى الشعب في عهده من القمع والترهيب.
عهد التنكيل
فقد بدأ الحاكم باضطهاد شعبه، والتنكيل بالمسيحيين واليهود حتى أن بعض الكنائس دمرت في عهده، وطالت قائمة المحظورات في ظل خلافة الحاكم لتشمل أشياء غريبة كتناول الملوخية والجرجير، أو ذبح الأبقار في غير أيام الأضاحي، وأصدر أوامر بتنظيم دخول النساء إلى الحمامات ومنعهن من السير خلف الجنائز، منع الغناء والجلوس على الطرقات كما منع الرجال من النظر إلى النساء، ومنعهن كذلك من الاجتماع على شواطئ النيل والاختلاط مع الرجال، ومن إقامة المناسبات الدينية، كما أصدر قرارات تمنع النساء من الخروج من المنازل ليلاً ونهاراً، والنظر من النوافذ والأسطح، الخادمات اللواتي يعملن في المنازل كن الوحيدات القادرات على الخروج وجلب الحاجيات الضرورية، ثم وصل به الأمر حد تقبله لفكرة تأليهه من قبل جماعة الإسماعيليين الذين أوجدوا فيما بعد الطائفة الدرزية.
عارضت ست الملك بشدة سياسات شقيقها المجحفة، وانحرافه عن طريق الصواب، وبدأت العداوة تظهر بينهما إلى أن اختفى الحاكم في العام 1021 خلال إحدى جولاته الليلية في المدينة وبعد يومين من البحث وجد مقتولاً في أحد الأزقة.
وكثرت الإشعات والأقاويل عن إغتياله في مؤامرة وأيد فريق كبير من المؤرخين علي رأسهم ابن الأثير إشتراك الأميرة ست الملك في قتل أخيها الحاكم وجعلوا منها العقل المدبر إذ كان لديها أكثر من سبب للقضاء عليه فقد أقصاها عن امور الحكم والسياسة وأرسل لها يتهمها بالزنا وتوعدها بالقتل فأرسلت إلي قائد كبير من قواد الحكم يقال له ابن دواس والذي كان يظنه حبيباً لها وكان أيضا يخاف الحاكم وقالت له: قد جئت إليك في أمر تحفظ فيه نفسك ونفسي وأنت تعلم ما يعتقده أخي فيك وأنه متي تمكن منك لا يُبقي عليك وأنا كذلك وقد إنضاف إلي هذا ما تظاهر به مما يكرهه المسلمون ولا يصبرون عليه وأخاف أن يثوروا به فيهلك هو ونحن معه وتنقلع هذه الدولة فأجابها إلي ماتريد ويذكر أبو المحاسن أنها قالت في ختام لقائها له: فإذا تم لنا ذلك أقمنا ولده موضعه وبذلنا الأموال وكنت أنت صاحب جيشه ومدبره والقائم بأمره وأنا إمرأة من وراء حجاب وليس لي غرض سوي السلامة منه وأن أعيش بينكم آمنه من الفضيحة .
الجريمة الغامضة
ويري فريق آخر من المؤرخين أن ابن دواس هو الذي قتل الحاكم بأمر الله دون مشاركة الأميرة ست الملك في تدبير عملية القتل ويقول هذا الفريق أن الأميرة ست الملك استدعت ابن داوس شيخ قبيلة كتامه إلي القصر بعد مقتل الحاكم بأمر الله فجاء فرحاً ظناً منه أن مقتل الحاكم قد أراح الأميرة لكنه أُخِذَ علي غرة وقتل بأمر منها وقيل أن قتله كان إنتقاما لقتل أخيها.
لكن المؤرخ المسبحي وهو من المعاصرين للحاكم بأمر الله يذكر في كتابه أخبار مصر عن سنتي 414هـ و415هـ أنه قد ألقي القبض في محرم سنة 415هـ علي رجل من بني حسين يصفه بأنه ثائر بالصعيد الأعلي وأن هذا الرجل قد إعترف بقتلة للحاكم بأمر الله وهو وأربعه آخرون منهم من مضي إلي برقة ومنهم من مضي إلي العراق وأظهر قطعة من جلد رأس الحاكم بأمر الله وقطعة من الفوطة التي كانت علية وعنما سئل عن السبب قال غيرة لله والإسلام وقد أيد المقريزي في خططة هذه الرواية.
بعد مقتل الحاكم بأمر الله، عام 1021 عززت ست الملك مكانتها في القصر عبر توزيع الأموال على كبار الشخصيات والقادة العسكريين في الدولة، وأعلنت الظاهر لإعزاز دين الله ابن شقيقها المقتول الحاكم بأمر الله خليفة للدولة الفاطمية، وقد كان الظاهر صبياً صغيراً آنذاك، وكوصية على العرش كانت ست الملك الحاكم الفعلي للبلاد، وبدأت عهدها بإعدام المسؤولين عن مقتل شقيقها.
عهد جديد
بعد ذلك بدأت ست الملك بإلغاء كل القوانين التعسفية الغريبة التي أصدرها شقيقها الحاكم، فسمح للنساء مغادرة منازلهن مرة أخرى بعد أن كن ممنوعات من ذلك في عهد الحاكم، كما شرعت الاستماع إلى الموسيقى وألغت محظورات الطعام، وسمحت للفارين من بطش الحاكم بالعودة إلى البلاد كما سمحت لغير المسلمين الذين أجبروا على اعتناق الإسلام في عهد أخيها بالعودة إلى دينهم، ولم تنسى مهامها الإنسانية فكانت تقدم المساعدات للأرامل والفقراء وبذلت العطاء للجند.
كما قامت بالعديد من الإصلاحات عن طريق إعادة النظر في الإقطاعات والمنح التي كان الحاكم قد أسرف في منحها وأصلحت الأحوال المالية فعمرت خزائن الدولة، كما أمرت بمطاردة الملحدين والمتطرفين من الشيعة الذين أذاعوا الخرافات عن ألوهية الحاكم بأمر الله واهتمت أيضاً بالسياسة الخارجية فبعثت نيقفور بطريرك بيت المقدس سفيراً إلي باسيل الثاني قيصر القسطنطينية لعقد أواصر الصداقة بين الدولتين
ونجحت في التغلب علي الأمير عزيز الدولة والي حلب الذي كان يعد للعصيان والإستقلال عن الخلافة في مصر واستطاعت أن تُغري غلامه بالتخلص منه ثم وضعته مكانه
وظلت الأميرة ست الملك تقوم بأعباء الدولة نيابة عن ابن أخيها الخليفة الشاب حتي وافاها أجلها في أواخر سنة 1023، بعد حياة حافلة بالعطاء بعد أن نجحت في انقاذ الدولة الفاطمية مرتين من الإنهيار وأعادت للدولة هيبتها وملأت الخزائن بالأموال واصطنعت الأكفاء من الرجال حيث استطاع الخليفة الصغير بوحي من عمته ست الملك إصلاح الكثير من الأمور التي أفسدها والده يقول الدكتور «عطية نايف الغول» في كتابه «المرأة في العصور العباسية»: «استطاعت «ست الملك» النجاح في تدبير شئون البلاد، ولم تتزوج أبدًا، ووهبت نفسها للأعمال العامة وخدمة الناس فتربعت على عرش القلوب، وقد لقبت بعدة ألقاب منها السيدة الشريفة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، تقي الدين المقريزي
• خطط المقريزي، تقي الدين المقريزي
• الكامل في التاريخ، ابن الأثير
• أخبار مصر، ابن المأمون
• المرأة في العصور العباسية، عطية الغول