بأقلامهم
زينب الباز تكتب: جشم آفت.. محررة عقل المرأة العربية
لعبت جشم آفت دور هام وأيادٍ بيضاء فى تطوير المرأة المصرية ومواكبة عصر النهضة والتنوير وخطط النهوض بالتعليم التى تبناها الخديو إسماعيل، إذ أنشأت أول مدرسة حكومية مجانية لتعليم الفتيات وهى المدرسة السيوفية التى سميت بالسنية فيما بعد عام 1873م، وكانت نواة أولى لتعليم البنات فى مصر، لأنها كانت المدرسة الأولي ليس في مصر فقط بل في العالم الإسلامي بأسرة أما أشهر خريجات المدرسة فهن ملك حفنى ناصف باحثة البادية، وفيكتوريا رياض وأولجا بلنش وهدى شعراوى وأمينة السعيد وسيرا نبراوى ونبوية موسى وصفية زغلول أم المصريين ودرية شفيق وسهير القلماوى وعائشة عبد الرحمن وحكمت أبوزيد وفوزية عبد الستار وغيرهن كثيرات من رائدات الفكر والتنوير في مصر.
جاء ترتيب جشم آفت هانم، زوجة الخديوي إسماعيل الحاكم الخامس من أسرة محمد على باشا فى الوثائق الرسمية الزوجة الثالثة من بين زوجاته الـ14، حرمها الله من الإنجاب، فسخرت جهودها لخدمة المجتمع وقررت أن تتفرغ لأعمال الخير وتطوير التعليم، والإستثمار في صناعة العقول وتحرير الفتيات من الجهل فقدمت خدمة جليلة لكل فتيات مصر عندما أنشئت عام 1873 من مالها الخاص، وكانت أول مدرسة حكومية مجانية لتعليم الفتيات وهى المدرسة السيوفية التى سميت بالسنية فيما بعد، الدراسة كانت داخلية مجانية، وبدأت بـ 15 معلمة منهن الناظرة واثنتان من الأجنبيات، كما بدأت بخمس تلميذات، وزاد الاقبال حتى وصل العدد إلي 286 تلميذة بين 7-11 سنة خلال 6 شهور، وكانت البنات الدارسات يحصلن علي التعليم والمأكل والملبس وبدون أي نفقات.
مدارس البنات
حتى فترة ما قبل 1873 لم يكن بمصر كلها مدرسة للبنات إلا مدرسة الولادة، وكانت الدراسة فيها للبنات الحبشيات بمصر، أما بنات الطبقات المختلفة فلم يكن لهن مدارس خاصة بهن، عدا بنات الأسر الراقية القادرة فقد كان أهلهن يصرون على تعليمهن بالمنزل.
كانت أغلب الدروس في الدراسة المنزلية هي علوم الأشغال اليدوية لا القراءة والكتابة، لكن جشم آفت هانم قررت دخول التاريخ من أوسع أبوابه بتأسيس مدرسة لتعليم البنات التي أصبحت فيما بعد نواة الحركة التعليمية للفتيات، حيث تلقت الطالبات الدراسة فى علوم القراءة العربية، الكتابة، الحساب، الرسم، الجغرافيا، الموسيقا أشغال الإبرة، الطبخ، الغسيل، التدبير المنزلى بالإضافة للغتين التركية والفرنسية والقرآن الكريم للمسلمات.
فى العدد 519 من جريدة "الوقائع المصرية" الصادرة فى 5 أغسطس 1873 نشر خبر إنشاء مدرسة للبنات بالسيوفية، وفى العدد 576 الصادر فى 23 سبتمبر 1874 جاء فى الوقائع باللغة التركية وكان نصه ما يلي:
"أنشأت الزوجة الثالثة لأفندينا الخديوإسماعيل جشم آفت هانم مدرسة للبنات بالسيوفية، وقد قامت بواجبها منذ بدء الدراسة حتى آخر السنة الدراسية فهيأت للطالبات أسباب الراحة من مأكل ومشرب وملبس طوال السنة الدراسية حتى آخر السنة، ألفت لجنة للامتحانات،وكان يوم انعقاد الامتحان مساء الأحد العاشر من الشهر الجارى سبتمبر874)، وامتحنت الطالبات فى الصناعات اليدوية والحساب والقراءة وكان عدد الطالبات اثنتى عشرة، وقد أدين الامتحان أحسن أداء، كما عرضت المدرسة مصنوعات طالباتها اليدوية فوق المنضدة والجدار على المهتمين بمثل هذا الانتاج تشجيعا للطالبات وإزكاء لروح العمل فيهن.
طريقة امتحان الفتيات
وتتابع «الوقائع المصرية» الحديث تحت عنوان "كيفية الامتحان" فتقول: خصص صالون المدرسة مكانا للامتحان، وقسم الى قسمين كل منهما محجوب عن الآخر بستار، وقد خصص القسم المستور للسيدات لكى يسمعن الامتحان وقد حضرت السيدات مع بعض قرينات الامراء والوزراء وقد حضر أيضا أزواج الخديو ومعهن مؤسسة المدرسة الفاضلة الاميرة جشم آفت هانم افندى، وكانت الطالبة تجلس امام اللجنة وتجيب عن الأسئلة التى توجه اليها شفويا أما فى الامتحان التحريرى فكانت الطالبة تقف امام السبورة لتجيب عن الاسئلة التى توجه اليها كتابيا، وفى حالة نجاحها تعزف جوقة (فرقة) موسيقية أعدت خصيصا لهذا الغرض الحانا لتهنئتها والترفيه عن النفوس.
وأسهبت «الوقائع» فى وصف محاسبة المدرسة ونقلت نصا عربيًا كتب وعلق على باب المدرسة يوم الامتحان الاول جاء فيه على لسان الطالبات الممتحنات "بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله الذى أنبت الانسان احسن نبات وجعل زينة الحياة الدنيا البنين والبنات والصلاة والسلام الدائمان المتلازمان على نبينا من عند الرحمن القائل لأمته (حب البنات من الإيمان) وعلى آله وأصحابه المغترفين من بحر آدابه وبعد: فإن التربية بالعلم نور يستضاء به فى كل الأمور فى المبادئ والأوائل".
نقلة نوعية
وقال المؤرخ الكبير «عبد الرحمن الرافعي»، في كتابه تاريخ الحركة القومية في مصر، أن إنشاء مدارس البنات بدأ فى مصر فى عهد الخديوي اسماعيل وكان قبل حكمه من قبل فى حكم العدم إذ لم تكن فى البلاد سوى مدرسة الولادة ولم يكن يتعلم فيها سوى البنات الحبشيات أما الفتيات من سائر الطبقات فلم تكن لهن مدارس لتعليمهن وكان الجهل مخيما عليهن إلا من كن يتعلمن فى بيوت آبائهن وأهلهن، وقليل اولئك
وفى سنة 1873 أسست مدرسة السيوفية للبنات (السنية فيما بعد) أنشأتها السيدة جشم آفت هانم ثالث زوجات الخديواسماعيل، وكان بها حين افتتاحها نحو مائتى تلميذة، وبلغ عددهن سنة 1874 أربعمائة تلميذة يتعلمن مجانًا، فضلا عن الانفاق على مأكلهن وملبسهن ويتعلمن القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم والحساب والجغرافيا والتاريخ والتطريز والنسيج، وتولى نظارتها حسن أفندى صالح ثم مدام روزه.
وكانت أعمار التلميذات تتراوح بين السابعة والخامسة عشرة، وكانت الامتحانات تعقد فى شعبان من كل عام وتقدر الدرجات من 0 الى 20 والنهاية الصغرى 4 درجات، وحدثت نكسة للمدرسة فى عام 1880 إثر خلع الانجليز للخديواسماعيل ورحيله مع زوجاته فحرمت المدرسة من مؤسستها وتأثرت بما حدث من اضطراب فى البلاد فتحولت الى ملجأ لليتيمات وبنات الطبقات الفقيرة وهبط عدد تلميذاتها الى مائة تلميذة و6 معلمين ومعلمات.
وأكد عبد الرحمن الرافعى أهم مؤرخى تلك المرحلة أن الأميرة جشم أنقذت مشروع إنشاء مدرسة للبنات الذي كان المشروع قد توقف عدة سنوات فاشترت قصرا فى السيوفية، وتبرعت لتجهيزه ليكون مقراً لمدرسة تسع ثلاثمائة تلميذة وتم افتتاح هذه المدرسة فى أغسطس 1783 وتصادف افتتاحها بعد عام على إصدار كتاب رفاعة الطهطاوى المرشد الأمين فى تعليم البنات والبنين.
نهضة معمارية
ويعد مبنى المدرسة فهو تحفة معمارية رائعة استخدمت فيها الاخشاب والزخارف الفنية بأسلوب راق يعكس حجم النهضة التي شهدتها مصر في عصر الخديوي اسماعيل وقد انشاء المدرسة تحت عنوان «انشاء مدرسة للبنات داخلية وخارجية للتثقيف والتعليم».
ويذكر التاريخ ان طالبات مدرسة السنية خرجن لأول مرة للاشتراك في مظاهرة سياسية ضد الاحتلال الانجليزي في ثورة عام 1919 ووقفن مع الرجال يطالبن بانسحاب الاحتلال من مصر، وذلك كله يحسب للأميرة جشم آفت هانم.
كان الهدف الأساسي الذي ذكرته جريدة «الوقائع» وخطط علي مبارك هو تعليم البنات تعليما ابتدائيا وعمليا يمكنهن من كسب العيش عند الحاجة وتجهيز البنات للالتحاق بمدرسة الولادة بالقصر العيني التي انشأتها حكومة محمد علي لتخريج الحكيمات والمولدات، ولكن المدرسة العريقة تطورت وساهمت بشكل فعال في بناء المجتمع المصري وتخريج طالبات على مستوى عال من الثقافة والعلوم شغلن مناصب كبيرة في الدولة.
تقول الكاتبة والناشطة النسوية درية شفيق في كتابها «المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم» أن الخديوي إسماعيل قرر زيادة عدد المدارس المخصصة للفتيات، فأصدر قرارا بإنشاء مدرسة في مدينة المنصورة وأخرى في القاهرة تحمل اسم مدرسة «الأشراف» تقتصر على تعليم بنات الطبقة العليا، وذلك بعد نجاح تجربة زوجته جشم آفت في انشاء مدرسة السيوفية السينية لاحقا في استقطاب بنات كبار العائلات إلا أن عزل الخديوي إسماعيل في العام 1879 ألقى بظلاله على المدرستين، فتم إيقافهما وأهملت المدرسة السيوفية لسنوات.
مكانة خاصة
ولدت جشم آفت هانم، عام 1930، وتزوجت من الخديوي إسماعيل عام 1863 ولم ينجب منها، وكانت ذات مكانة خاصة لديه، لذلك وافق لها أن تتبني ملك حسن طوران؛ التي صارت فيما بعد سلطانة مصر بعد زواجها من السلطان حسين كامل، وفايقة هانم افندى التي تزوجت من مصطفى باشا صديق ابن إسماعيل باشا صديق المفتش.
كانت الوحيدة من زوجات الخديوي إسماعيل، التى كان مسموحا لها استقبال الصحفيين فى المنفى فى إيطاليا، وضح دورها فى تطوير المرأة المصرية ومواكبة عصر النهضة والتنوير وخطط النهوض بالتعليم التى تبناها الخديوي إسماعيل.
رحلت جشم آفت عن عالمنا في عام 1907 ودفنت في مسجد الرفاعي بالقاهرة، لكنها عانت من التجاهل بسبب عزل ونفي الخديوي إسماعيل عام 1879، مما جعلها من نساء الظل في التاريخ، رغم أنها كان يجب أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه بأعمالها الخالدة فنساء الأمة العربية مدينون لها بالفضل فيما حققوه من مكتسبات بفضل إنشاء مدرسة السينية للبنات، وتستحق أن تكون صاحبة لقب محررة عقول المرأة العربية والإسلامية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• المرأة المصرية من الفراعنة إلى اليوم، شفيق درية
• كتاب لمحات من حياة المرأة المصرية، طارق علي حسن
• سلسة تاريخ الحركة القومية المصرية، عبدالرحمن الرافعي
• الخطط التوفيقية، علي مبارك