الفن
مسلسل صلة رحم ..مستوى فني مميز و رسائل غير واضحة المعالم
مسلسل صلة رحم ..مع انتهاء النصف الأول من شهر رمضان، يعتبر مسلسل "صلة رحم" من أكثر المسلسلات تميزاً من حيث الفكرة و الحبكة الدرامية التي تناولها، و صراعه بين الدين و العلم و الأعراف الاجتماعية و الصراع بين العقل و الضمير.
فمنذ فترة طويلة لم تقدم الدراما المصرية مسلسل به هذا القدر من الصراعات النفسية بداخل البشر، حيث كُتبت شخصيات المسلسل بشكل بارع، و رسمها الكاتب محمد هشام عبية باحترافية شديدة جعلت أكثر ما يميز النص هو شخصياته المختلفة و التي يحمل كلاً منهم بداخله صراع ما، حيث الجميع يبرر أخطاؤه و يتعايش بسلام نفسي مع كل خطاياه، و يبحثون لأنفسهم عن بقعة ضوء ليرتاح ضميرهم، مثل البطل الذي قام بتأجير رحم لأنه يريد تعويض زوجته التي اصبحت عقيمة للأبد بسبب خيانته لها، و الطبيب الآخر الذي يبرر عمليات الاجهاض و يعتبرها عمل أخلاقي لانه ينقذ سمعة فتاة قبل ان يحاكمها المجتمع، و الممرضة التي تتخذ من الفقر حجة و ذريعة لما تفعله من المساعدة في عمليات الاجهاض و استغلال ظروف الناس الصعبة في اعمال التبرع و غيره .
مسلسل صلة رحم :
و في الحقيقة يبدو أن الكاتب محمد هشام عبية لم يكن متفرغاً لشيء سوى لكتابة الشخصيات و الاهتمام بتفاصيل كل شخصية و صراعها النفسي و تاريخها و ماضيها، إلا أنه لم يكن متفرغاً ابداً لتوضيح اركان القضية علمياً و دينياً بشكل يعطي المشاهد اجابة وافية عن تساؤلاتهم.
فالقضية الشائكة التي عرضها المسلسل حتى يتم تمريرها دراميا كان ينبغى تقديم هذا المشهد المباشر في دلالته، حوار بين إياد نصار والشيخ خالد الجندى وحديث عن تأجير الأرحام، وفى النهاية أكد الشيخ خالد أنه محرم شرعا، ورد عليه إياد بأن أطفال الأنابيب في الماضى أيضا كانوا محرمين، قبل أن يباح ذلك وأضاف (الضرورات تبيح المحظورات)، بينما الشيخ خالد ظل معبرا عن رأى المؤسسة الدينية بأنه حرام.
و لكن لم يكن رد الشيخ خالد الجندي كافياً و لم يقل المعلومة الدينية الاساسية التي حتمت تحريم تأجير الأرحام و هي حرمانية تواجد حيوان منوي من رجل في رحم امرأة لا تحل له، و اذا تزوج الرجل من المرأة لابطال العلة، فهو حرام لأن الطفل الذي يولد من رحم ام و يعيش مع أم صاحبة البويضة سيشعر بتشتت نفسي رهيب و يصيبه بحالة نفسية سيئة ما قد يتسبب له مرض ما.
مسلسل صلة رحم :
كما ستعاني الأم الحاضنة من خلل نفسي رهيب بعد الولادة بسبب انفصالها عن الطفل الذي يعتبر ابنها بالدم و الغذاء، فهي كأم لها حق في الطفل و كذلك الأم صاحبة البويضة، و لعدم القدرة على تحديد ايهما أم الطفل، فهذا يؤدي إلى خلط أنساب.
فكان لابد من الحديث بشكل أكثر في القضية عن طريق مناظرة بين طبيب و رجل دين و بالطبع ليكون في حيز قانوني كان لابد للخروج بالأحداث من مصر، و كأن الزوجين يعيشان في دولة بالخارج، مسموح فيها بتأجير الارحام و أن يكون قضية جدلية للزوج الذي ينادي يتقنينه في كل دول العالم و ليس بعضها فقط، كذلك كان لابد و حتماً من تجسيد معاناة الأم الحاضنة اثناء الحمل لتعزيز فكرة أنها الأحق بالطفل، بدلاً من تمرير أشهر الحمل بعبارة "بعد مرور ستة اشهر"، كذلك كان من المفترض تسليط الضوء على فترة ما بعد الولادة و اظهار تمسك الام الحاضنة بالطفل و نزاعها عليه من الام صاحبة البويضة.
مسلسل صلة رحم :
أو القاء القبض على من شارك في هذه الجريمة و محاكمته و تناول الدفاع و النيابة لكل عناصر القضية من حيث المنظور الطبي و الديني و الاجتماعي و الانساني، ومن هنا نفتح النقاش حول تأجير الأرحام، وهل ما فعلوه هو حق أم باطل؟، وما الحل للذين تحرمهم الأقدار من الأبناء، ولا يجدوا سبيلا غير تلك العملية التي أصبحت متاحة بفضل التقدم العلمي، فلم يتطرق المسلسل مثلاً لعملية زرع الرحم التي تم اجرائها في أكثر من دولة بالخارج و حقق بعضها نجاح كبير.. أعتقد أن المسلسل بذلك كان سيكتسب أهمية كبرى، و كان سيصبح مرجعاً طبياً و علمياً .
و لكن خوفاً من رد فعل الجمهور و هجوم النقاد لجأ الكاتب في النهاية إلى عقاب البطل بقتله، بينما أسماء أبواليزيد أنجبت طفلا، بعد أن قام بتزوير حتى اسمها، ليصبح الجنين يحمل اسم يسرا اللوزى وهى جريمة تنضم إلى عشرات ارتكبها، فاختيار الموت كحل هروب من الإجابة عن الأسئلة، اضعف الحلول الدرامية.
حيث شعرنا أن النهاية منفصلة عن مسار الأحداث و كأن الحلقة الأخيرة حلقة من مسلسل آخر، و كان المشاهد ينتظر نهاية مختلفة بوفاة الطفل أو صراع الأمهات، و لكن للأسف كانت النهاية محبطة و مخيبة للآمال، و التي فوتت وأهدرت فرصة عظيمة لمناقشة القضية والإشكالية التي طرحها المسلسل بلا ثمن.
على مستوى رتم الأحداث فكان المسلسل يعاني من بطء شديد في الحبكة و تأخر في السرد، فحتى الحلقة التاسعة لم تتم عملية التأجير و زرع الجنين في رحم الأم الحاضنة، ثم حشو زائد و مط بدون داعي حتى الحلقة الـ 13 التي شهدت قفزة غريبة في الأحداث و تغيير مواقف الابطال فجأة، و اتخاذ قرارات بدون اي مبرر و هذا فضلاَ عن الترويج الواضح لعمليات تأجير الأرحام و عمليات الاجهاض و المناداة رسمياً بتقنين تلك العمليات و الحق في اجهاض آمن للنساء، و تغيير موقف البطل تماماً من تلك العمليات لدرجة اقناعه لزميلة باجراء عملية لاحداهن.
مسلسل صلة رحم :
فضاعت الحبكة بين الحشو و المط تارة و التسرع في الأحداث تارة، و لكن تفوق المسلسل من حيث جودة الفكرة و ان لم يعرف كاتبها كيف يصوغها، وكذلك على مستوى الحوار الذي حمل جمل و عبارات رنانة و كان على قدر كبير من الرقي.
نذهب الى موسيقى المسلسل التي ابدعها الموسيقار "اشرف الزفتاوي" وهو واحد من اهم ابناء جيله الذي يصنع موسيقاه مشهدا بمشهد وحلقة بحلقة دون استسهال ونحت وتكرار.. ففي كل مشهد يختار آلاته بعناية تشبه ابطال المشهد.. ففي المشاهد الحزينة والمؤثرة تخلقها موسيقى الكمانجات "السكوندو والبريمو في تناغم بين الشخصية الرئيسية والشخصية المساعدة.. يظهر في المشاهد المتوترة والتصادمية الكونترباص بغلظته مع التشيلو ثم في مشاهد الخوف والضرب والحوادت يؤكد بلغة الموسيقى التوتر ويزيده احساسا لدى المشاهد مما يضعنا في بعد ثلاثي مع الأبطال كما تفعل نظارات الرؤية ثلاثية الأبعاد حيث الآلات الايقاعية تتصدر كضربات قلب الخائف او المتوتر والقدر سوياً.. ثم يظهر الكلارينيت احيانا مع الكمانجات ليطبطب على المشاهد وعلى ابطال الحكاية.. وكأن الموسيقى هنا لا تكتفي كونها عامل مساعد كما يعتقد البعض لتحولها الى حياة لو اختفت لماتت الحكاية بموتها.
تميز المسلسل ايضاً في شيء اختلف به عن كل المسلسلات المعروضة في الفترة الأخيرة، و هو ابتعاده عن الشخصيات النمطية، فالفتاة الشعبية حنان لا تضطر للحديث بصوت أجش أو لوي شفاهها كي تظهر انها شعبية، و لكن كانت فتاة فقيرة بسيطة مظهرها جيد رغم بساطته لا تفرق بينها و بين الفتاة العادية أو المتعلمة، و اعتمد الكاتب ببراعة على اظهار مستواها التعلمي المتواضع من خلال مشهد واحد و هو حين اختلط عليها الأمر بين حرفي السين و الصاد في اسم رستم اثناء مليء الاستمارة.
كذلك باقي الشخصيات التي تحمل في داخلها الخير و الشر معاً، فالناس ليست ابيض و اسود فقط ، بل الجميع رماديون لهم و عليهم، أخيراً كان الأداء متميزاً بحق من اياد نصار الذي يجيد أداء الشخصيات المعقدة و المركبة و كذلك اسماء ابو اليزيد و هي نجمة واعدة بادائها البسيط و السهل، و هبة عبد الغني المتألقة دائماً و محمد جمعة و صفاء جلال و جميع الوجوه الصاعدة، باستثناء يسرا اللوزي التي كان أدائها بارد لأبعد الحدود، فمثلاً مشهد وفاة اياد نصار كانت لحظة درامية مفجعة و مؤثرة دمرتها يسرا اللوزي تماماً ببرودها رغم اجتهادها للخروج بالمشهد في افضل صورة.
مسلسل صلة رحم :
بوستر المسلسل به ابداع واختلاف في اختيار شكل الكتابة حيث كلمة صلة يشبه حرف الصاد فيه بطن امرأة حامل بانتفاخها بالجنين.. ثم رسمة كلمة "رحم" وحرف الحاء في هيئته وكانه استدعاء تشريحي لشكل الرحم نفسه وتجويفه منتهيا بحرف الميم وانحنائه كما هي قناة فالوب وتشكيل فني بديع يحاكي الرحم ذاته حين ندقق في التشكيل بينما تشكل بطلتي العمل "اسماء ابو اليزيد" و"يسرا اللوزي" المبيضان للرحم.. اليمين واليسار.. يستقر بينهما البطل الرئيسي ليكمل التشكيل.
الحوار في المسلسل محسوب بمهارة.. حيث كل عالم له لغته.. فعالم الكوافيرات له جوه من اللغة والملابس والاضاءة والحركة.. عالم الأطباء لها طبيعته ولغته وديكوره.. كل ممثل بطل في دوره بطولة مطلقة بتفرد وامتياز.. حتى الشوارع لم يغفل المسلسل ان يجعلها تتنفس وتنطق بالواقعية، و لكن أقوى العناصر على الاطلاق كان المكياج، فلم أرى مكياج منطقي متقن لمصابين في حادثة سيارة من زمن في الدراما المصرية بقدر ما اتقنه فريق مكياج مسلسل صلة رحم.
و اخيراً كانت الاضاءة من اجود عناصر المسلسل بعد كمية المسلسلات التي تحمل شعاراً "أعتم دراما في العالم هي المصرية"
ورغم عيوب المسلسل، لكن سيظل (صلة رحم)، هو المسلسل الاستثناء في دراما النصف الأول من رمضان، جرأة في الاقتراب من فتيل مشتعل، ولا يزال مشتعلا!!.