اهم الاخبار
السبت 02 نوفمبر 2024
#الجمهوريةـالجديدة
رئيس التحرير
خالد العوامي

بأقلامهم

زينب الباز تكتب: دولت فهمي.. فدائية من الصعيد الجواني

الكاتبة الصحفية زينب
الكاتبة الصحفية زينب الباز

دفعت حياتها ثمنا زهيدا في سبيل الوطن، والمشاركة بأغلى ما تملك في حرب تحريره المقدسة من الإحتلال الإنجليزي، لم تتردد لحظة واحدة عندما طلب منها التضحية، وبالرغم من ذلك، تجاهل الكتاب والمؤرخون دورها، ولولا إشارة الكاتب الصحفي مصطفي أمين لدورها لكان مصيرها النسيان. فوجب علينا الإشارة إلى جهودها.
دولت فهمي، ناظرة مدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات، القادمة من محافظة المنيا في صعيد مصر، والتي كانت في مقدمة صفوف المظاهرات النسائية في  ثورة 1919، فضلا عن عضويتها في التنظيم السري، أو اليد السوداء تحت قيادة عبد الرحمن فهمي وأحمد ماهر، وهدفه الأساسي تخويف المحتلين الإنجليز والخائنين من المصريين، عن طريق اغتيال بعض جنود الاحتلال وإرهاب بعضهم وإرسال التهديدات لهم، ومحاولات اغتيال بعض الوزراء المصريين لأنهم قبلوا وجود حكومة في ظل الاحتلال ومنهم محمد سعيد ويوسف وهبه ومحمد توفيق نسيم.

منشورات حماسية 


كانت دولت فهمي تطبع المنشورات الثورية الحماسية وتوزعها على المواطنين فتلهب مشاعرهم وحماسهم وتشجعهم على الإستمرار في ثورته والدفاع عن بلادهم وتشجعهم علي مواجهة ورفض الاحتلال. 

زينب الباز تكتب: دولت فهمي.. فدائية من الصعيد الجواني


مثلما انتفض المجتمع في وجه زينب خليل البكري، التي وصفوها بالإنحلال بدون دليل أو جريرة مؤكدة، وقصفوا رقبتها رغم أن بعض المؤرخين أكدوا أنها لعبت دورا خفيا في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر، نفس الأمر تكرر مع دولت فهمي تلك الفدائية القادمة من الصعيد الجواني، إذ قتلها أهلها عام 1920 ظنا منهم أنها فرطت في شرفها في حين أنها أنقذت الجهاز السري لثورة 1919، الذي كان له الفضل في نجاح الثورة وقتها بحسب المؤرخين.
ولدت دولت فهمي في نهاية القرن التاسع عشر في قرية أبو عزيز بمركز مطاي محافظة المنيا، من عائلة شادي العريقة ذات الأصول الحجازية، عائلة ينتهي نسبها إلى الأشراف من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
انتقلت دولت للعيش في القاهرة وانشغلت بقضية تعليم البنات حتى أصبحت وكيلة مدرسة الهلال الأحمر للبنات بالقاهرة، واستطاعت من خلال موقعها الوظيفي أن تحشد جموع المرأة للخروج في ثورة 1919م. 
لم ينته دورها السياسى بانتهاء الثورة ولكنها انخرطت فى العمل السياسى بشكل تنظيمى فكانت عضوا فى التنظيم السرى للثورة وهو ما جعل الأمر من الصعوبة بمكان لمعرفة الكثير عنها، حيث كان العمل كله يتم فى سرية تامة. 

اليد السوداء


كان ذلك التنظيم السرى أو اليد السوداء - كما أطلق عليه - تحت قيادة عبد الرحمن فهمى وأحمد ماهر، وهدفه الأساسى تخويف المحتلين الانجليز والخائنين من المصريين، وذلك عن طريق اغتيال جنود الاحتلال وإرهاب بعضهم.

زينب الباز تكتب: دولت فهمي.. فدائية من الصعيد الجواني


تقول الدكتورة سامية محمد عبد الرحمن الشرقاوي في كتابها "الجمعيات السياسية والاجتماعية والدينية ودورها في المجتمع المصري/ 1882-1936"، أن الجهاز السري كان يتكون من هيئة رئيسية لها فروع، وكان لكل عضو من أعضاء الهيئة أن يتصل بشخص واحد ليؤسس خلية من شخصين، وكل ذلك بسرية تامة كي لا يعرف أحد، حتى الأعضاء، هيكلية الجهاز. وتضيف أنه في جمعية اليد السوداء، كانت توجد لجنتان (مستعجلة وتنفيذية) تتوليان مهمة كتابة منشورات سريعة بأمر من عبد الرحمن فهمي.


وكان هدف الجمعية التي تكونت سنة 1919 "إثارة الرأي العام، وإتلاف الأشياء بحيث تكلف الحكومة نفقات كبيرة، وإرسال خطابات التهديد إلى السياسيين" المتعاونيين مع الإنجليز، وجمع الأموال اللازمة للإضراب، وتعليق منشورات تدعو للانتقام من الجنود البريطانيين. 
أرسلت الجمعية تهديدا حمل توقيع "اليد السوداء" إلى وزير الأشغال إسماعيل سري باشا حذرته فيه من الموافقة على مشروعات الري الإنجليزية تحت طائلة الموت.
كان الجهاز السري يحاول منع المصريين من قبول هذا المنصب ويصنّف مَن يقبله "خائنا"، كما هددت أصحاب الحوانيت بنفس المصير إنْ لم يضربوا ويغلقوا حوانيتهم، تسبب نشاط "اليد السوداء" بصداع لسلطات الاحتلال والمتعاونين معها، فصدرت أحكام بالسجن ضد مواطنين أغلبهم من الطلبة بسبب تعاونهم مع الجمعية.

تضحية عظيمة


بدأت قصة تضحية العظيمة دولت فهمي التي تجاهلها الجميع حتى الجهاز السري الذي أنقذتها لم يكلف خاطره التواصل مع أهلها لإظهار حقيقة الأمر وخاصة أنها من الصعيد، عام 1919، عندما منعت سلطات الاحتلال الإنجليزي حزب الوفد المصري بقيادة سعد زغلول من السفر إلى مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لعرض قضية استقلال مصر، ونفتهم إلى مالطا، فاندلعت ثورة عارمة شهدت نشاطاتها تشكيل عدة جماعات وتنظيمات سرية لمناهضة الاحتلال، كتشيكلات ضمن ما عرف بـ"الجهاز السري" للثورة. 

زينب الباز تكتب: دولت فهمي.. فدائية من الصعيد الجواني


في أحد أيام عام 1920، ألقى عبد القادر محمد شحاتة قنبلة على وزير الأشغال محمد شفيق باشا، أثناء مرور موكبه في ناحية غمرة بالقاهرة، وفرّ هاربا إلى إحدى الخرابات حيث قام بتغيير ملابسه للتمويه، ومشى في طريقه كأي مواطن عادي، حتى وجد صديقا كان ينتظره في شارع النزهة، فهمت لإنقاذه وزعمت أنه عشيقها فلما علم أهلها قاموا بقتلها.


قال عنها مصطفى أمين في كتابه أسرار ثورة ١٩ الكتاب الممنوع بنت مصرية من محافظة المنيا، تعمل ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات بالقاهرة. 
وكانت لها قصة مع الطالب عبد القادر شحاتة، ففي ظل الأحتلال البريطاني أصدر سعد زغلول والجهاز السري لثورة ١٩ بقيادة عبد الرحمن فهمي قراراً بأنه لا يجوز لأي مواطن مصري أن يقبل تشكيل الوزارة أو أي منصب وزاري تحت حماية الاحتلال، والا اعتبر خائناً للوطن، الا ان ” محمد شفيق باشا قبل تكليفه” بوزارات الأشغال والحربية والزراعة، فما كان من التنظيم السري الا ان كلف عبد القادر شحاتة لإرهابه أوقتلة، وكان عبد القادر ذي الواحد وعشرين عام شاباً ثورياً له دور كبير فى طبع المنشورات وإشعال الثورة في المنيا .
وامتثل عبد القادر شحاته للأمر وقام بإلقاء القنبلة علي الوزير لكنه لم يمت، كما اعتقد عبد القادر لأن الجهاز السري للثورة لم يرد القتل إنما الإرهاب فقط، وتم إلقاء القبض عليه واعترف بأنه كان ينوي قتل الوزير بسبب قبوله الوزارة وأراد المحققون معرفة مكان وجوده قبل الواقعة الا انه رفض الأعتراف خوفاً من كشف أعضاء الجهاز السري وسقوطهم في يد السلطات الإنجليزية،لأنه كان يبيت في منزل أحمد ماهر رئيس وزراء مصر فيما بعد ومساعد عبد الرحمن فهمي رئيس الجهاز السري، وخاف عبد الرحمن فهمي، أحمد ماهر من اعترافه تحت وطأة التعذيب، وأنكر عبد القادر وجود شركاء له، وقام رجال المخابرات البريطانية بتعذيبه تعذيبًاً شديدًاً ليعرفوا سؤالًاً واحدًاً هو: أين أمضى عبد القادر الليلة السابقة على ارتكاب الجريمة؟.

كان عبد القادر يجيب عن كل الأسئلة إلا هذا السؤال! وخشي الجهاز أن ينهار تحت التعذيب فبعثوا إليه برسالة تقول: ان سيدة اسمها دولت فهمي ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات ستتقدم للشهادة وتقول إنك كنت تبيت عندها في بيتها بالحلمية الجديدة. 
وأمام النائب العام تظاهر عبد القادر شحاته بالامتناع عن الإجابة، لأنه يخشى أن يذيع سرا يتعلق بامرأة خوفاً على سمعتها! فوعده النائب العام أنه لن يخبر أحد، فأخبره أنه كان يبيت عند ناظرة مدرسة الهلال الأحمر للبنات دولت فهمي.
ولم يفي النائب العام بوعده، وأمر بالقبض فورا على دولت فهمي. وكانت سيدة رائعة الجمال، على وجهها برقع أبيض شفاف لا يخفي أسنانها اللؤلؤية ولا شفتيها شديدتي الأحمرار، ممشوقة القد، وفوجئ عبد القادر بهذا الجمال الفتان وبالسيدة تهجم عليه وتقبله وتلتصق به رغم قيود الحديد في يدها، وتقول له بصوت يرتجف من الحب واللوعة: يا حبيبي يا روحي يا عبد القادر. 


وسأله النائب العام: هل هذه هي السيدة التي كنت تبيت عندها؟ وإذا بدولت تقول له اعترف يا حبيبي لا تحاول أن تحمي سمعتي، إنني اعترف أنك كنت تبيت في بيتي وأطلب أن يسجل هذا الاعتراف في التحقيق.
وصدر الحكم على عبد القادر بالإعدام شنقًا وخفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. 

زينب الباز تكتب: دولت فهمي.. فدائية من الصعيد الجواني


وعاش كل أيامه بعد ذلك في السجن لايفكر في شيئ الا معشوقته التي هام بها عشقًا، وكان يعد الأيام متمنياً الخروج من السجن ليتزوجها، فعمره ٢١ سنة والحكم الصادر ضده قد ينتهي بعد ١٥ سنة بحسن السير والسلوك وعنها سيكون عمره  ٣٦ عامًا، وعمرها ٣٨ وتكون الفرصة كبيرة لحياتهم معاً بعد الزواج، ثم كان نجاح الثورة وتشكيل الوزارة برئاسة سعد زغلول فأمر بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، بعد أن أمضى عبد القادر أربع سنوات في السجن لم ينسى دولت فهمي لحظة واحدة.

ثمن التضحية


وفي يوم ١١ فبراير ١٩٢٤ أفرج عن عبد القادر الذي خرج مسرعاً تسوقه قدماه إلى مدرسة الهلال لمقابلة دولت فهمي، لكنهم أخبروه أنها تركت المدرسة منذ أربع سنوات، وعرف أنها من إحدي قرى المنيا، فذهب إلى هناك وسأل عنها كل فرد في القرية حتى العمدة وشيخ البلد فأنكرا معرفتهما بها، ثم ذهب لبيت أخيها فأنكر أن تكون له أخت بهذا الاسم. فعاد إلى القاهرة، وسأل أعضاء الجهاز السري للثورة فطلبوا منه ألا يسأل عليها مرة أخرى. 
وأخيرأ علم أنها راحت ضحية وشاية كاتب التحقيق بالنيابة حيث كان من نفس قريتها وأنه أبلغ أهلها باعتراف ابنتهم بأنها كانت تربطها علاقة آثمة بالطالب عبد القادر شحاتة، وأنه كان يبيت عندها كل ليلة. 

وسافر أهلها للقاهرة وشاهدوا اعترافها وتوقيعها على أوراق التحقيق ثم ذهبوا إلى مدرستها وأخذوها معهم بحجة العزاء في خالتها. 
وعندما وصلوا القرية أخذوها لزيارة قبر خالتها، وأثناء ذلك انقضوا عليها بالخناجر والسكاكين ليغسلوا عارهم دون أن يعرفوا أنها فدائية لولا ما فعلته لانكشف الجهاز السري وفشلت الثورة تماماً .
ووصفها المناضل الوفدى إبراهيم طلعت بعذراء الحرية وجان دارك العرب وفخر الفداء للوطن.
دولت فهمي ينطبق عليها قول أمير الشعراء أحمد شوقي 
الناس صنفان موتى على قيد الحياة
وآخرون ببطن الأرض أحياء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• الجمعيات السياسية والاجتماعية والدينية ودورها في المجتمع المصري/ 1882-1936، سامية محمد عبدالرحمن الشرقاوي
• شخصيات لا تنسى، مصطفى أمين
•  الكتاب الممنوع أسرار ثورة 1919، مصطفى أمين
• الـ200 فكرة، مصطفى أمين

ﺗﻔﻀﻴﻼﺕ اﻟﻘﺮاء