بأقلامهم
زينب الباز تكتب: ليليان تراشر.. أم الفقراء والأيتام
أثبت أن الإنسانية والرحمة لا تعرف دينا أو وطنا أو جنسا، تلك الفتاة الأمريكية، التي تركت بلادها وخطيبها وجاءت إلى مصر في مطلع القرن العشرين، وكرست حياتها في خدمة الأيتام وأطفال الشوارع لتنشىء أكبر الملاجئ في مصر بمحافظة أسيوط جنوب البلاد، وثاني أكبر الملاجئ في العالم؛ حيث بلغت مساحته ١٢ فدانا، عام 1911.
إنها ليليان تراشر الفتاة الأمريكية الرقيقة من رواد العمل الإصلاحي، التي لم تلق التكريم الكافي في حياته، ولم يذكرها الكتاب والمفكرون الإ فيما ندر رغم ضخامة إنجازها الإنساني الذي يحصد الأيتام والفقراء ثماره حتى الآن.
ولدت ليليان في ولاية فلوريدا الأمريكية في 27 سبتمبر 1887، نشأت في عائلة محافظة مدققة تميل للتقاليد، وجاءت الى مصر في 5 أكتوبر 1910م لتساهم في تنمية المجتمع من خلال العمل في مأوى للاطفال، أسست الجمعية الخيرية بأسيوط والتي تحمل اسمها في 10 فبراير 1911م، بيت ليليان تراشر، يستقبل حتى يومنا هذا الأيتام وذوي الظروف الخاصّة ويعد أكبر ملجأ في العالم.
بداية المشوار
عندما راودتها فكرة السفر إلى مصر عرضت الأمر على خطيبها لكنه رفض بشدة ووصفها بالمجنونة، فحزمت أمتعتها وسافرة إلى مصر، وفى بداية خدمتها كانت تسافر بين القرى وهى تركب على حمار لانها كانت وسيلة المواصلات الوحيده فى تلك الايام .
وكانت تخاطر بحياتها كل يوم وتركب مراكب شراعيه وقت الفيضان وفى مره المركب كان حا يغرق بيها وهى وحدها، لولا كومة حطب جلست عليها وقت طويل حتى جاءت مركب أخرى وأنقذتها .
كتبت ليليان تراشر في مذكراتها يناير 1960: ها قد مضى الزمن بسرعة – وانا أرجع اليوم بذاكرتي إلى الماضي منذ خمسين عاما استعرض فيها عملي مع المصريين – وعمل المصريين معي ثم توفيق الله لنا.
نعم قد قدمتم لي اجل مساعدة ووقفتم معي واشتركتم معي في تشييد هذا الصرح الكبير الذي سيبقى مع الزمن… يؤدي رسالة جليلة لقد برهنتم انكم اوليتم من الانسانية ونبل الشعور وحب الخير ما جعلني اؤمن ايمانا قويا بنجاح العمل بصفة مستمرة فلكم جميعا عظيم شكري واليكم اهدي هذا الحديث وقالت كنت أبلغ الثالثة والعشرين من عمري – وكان عملي في ذلك الحين مساعدة سيدة تدعى ماتي بيري في ادارة ملجأ في مارليون في كارولينا بامريكا وحدث ان ذهبت في احد الليالي لسماع عظة تلقيها احدى المرسلات عقب رجوعها من الهند – وما ان بدأت تسرد في حديثها عن احتياج الانسانية المعذبة الى من يمد يد العون ويقف بجوارها حتى شعرت بان جاذبا خاصا يشدني للذهاب الى افريقيا فعرضت على خطيبي ان يرافقني للعمل في افريقيا ولكنه رفض وعندها تركته واعددت حقيبتي استعدادا للرحيل واخبرت اصدقائي بعزمي على الرحيل.
مأساة ملهمة
تستطرد ليليان في مذكراتها فتقول: وصلت أسيوط في 26 أكتوبر 1910م، وطلب مني زيارة أرملة فقيرة تحتضر ومعها طفلتها التي لم تبلغ من العمر سوى شهورا قليلة، ماتت الأم وتركت لي الطفلة في حالة بالغة السوء عندها قررت انشاء دار للأيتام والفقراء، فاستأجرت منزلا بجنيهين ونصف شهريا، واشتريت بالقليل الباقي من النقود بعض الأثاث في 10 فبراير 1911م في مدينة الفتح بمحافظة أسيوط وهو النواة الصغيرة للمؤسسة كان أول تبرع للمؤسسة سبعة قروش قدمها ساعي تلغراف، في البداية لم يقبل الناس لتقديم أيتام الى المؤسسة فهم لم يسبق ان رأوا شيئا من هذا القبيل – ان يرغب شخص في ايواء الاطفال والانفاق على غذائهم وكسائهم وتعليمهم ويعتني بهم بلا مقابل وبدون اجر!
واعتقدوا انه لابد ان يكون في الامر سرا خفيا ربما اعتقدوا انني سأخطف الأطفال إلى أمريكا لذلك فلم احتضن في العامين الأولين سوى ثمانية أطفال، وكانت تلك فرصة لتعلم اللغة العربية وذلك اتاح لي فرصة أن اقوم بحسن تهذيب الاطفال حتى أنهم اصبحوا لي فيما بعد خير عون وسند في خدمة المستجدين من الاطفال بعدئذ.
بحلول عام 1914، أنشأت ليليان برنامجا للدراسة الكتابية والمدرسية للأيتام الثمانية في رعايتها بحلول عام 1918، كان لديها 50 يتيم – وثمانية أرامل في مسكن الأرملة الجديد وافق المستشفى الإنجيلي المحلي على توفير رعاية مجانية لما يصل إلى ستة من اليتامى في كل مرة، مما زاد من قدرة ليليان على رعاية الأطفال المرضى.
هي والمستحيل
واجهت ليليان تراشر في خدمتها الكثير من المشاكل التي أصابت مصر، ومنها الاستعمار البريطاني، والثورات، والأوبئة، والكوليرا والطاعون، لكن لم يثنها ذلك كلّه عن عزمها على خدمة الأطفال اليتامى المشرّدين في أسيوط، لأنها أخذت عهداً بأن تستقبل كل من يدقّ باب الملجأ .
وأضافت في مذكراتها : في عام 1939م نشبت الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وتذكرت عندها الحرب العالمية الأولى وكيف جلبت الخراب والدمار والشقاء على الجميع وتذكرت كيف انه في عام 1919م طلب مني أن أغادر أسيوط لاكون في مأمن ولكنني رفضت حينها أن أترك أبنائي، لكن انقطعت المساعدات عنا 4 شهور بسبب الحرب مما زاد مخاوفي على الأطفال والمصير الأسود الذي ينتظرهم ظن الجميع أننا سنتخلص من الأطفال كما تفعل المؤسسات الأخرى، لكن في الشهر الخامس من بداية الحرب وصلت لنا معونات من شخص أمريكي في ولاية كنساس أرسل لنا تبرعا فذهب إلى البنك وكتب شيكا ووضعه في خطاب، إلا أنه أخطأ في كتابة العنوان فكتب: أسيوط – الهند بدلا من أن يكتب أسيوط – مصر، الغريب أن رجل البريد أخطأ أيضا فوضع الخطاب بين الخطابات المرسلة إلى مصر بدلاً من المرسلة الى الهند، وجاء المال في الوقت المناسب، فلم يكن معي مليم واحد وكان هناك أحد العمال يحتاج إلى أجرته لعلاج زوجته المريضة وقتها وصل المال المطلوب عوضنا عن الأشهر واستطعنا أن نشيد عيادة داخلية للعلاج، بمساعدة مالية من اختى الكبرى جيني بنتون التي كانت رغم بساطتها جميلة ومستكملة الاجهزة الطبية وما ان فرغنا من البناء حتى حضر الينا طبيب متطوع من أسيوط يعرض علينا خدماته المجانية وبعد ذلك شيدت المدرسة الابتدائية وتمكنا ايضا من الاستغناء عن الطلمبات التي تسحب الماء من باطن الأرض وبدأنا في استخدام ماكينة رفع المياه وارتفع الصهريج عاليا ووزعت الصنابير على جميع الابنية وأصبحت الموسسة على أرض سعتها 12 فدان وتضم 12 مبنى رئيسي.
وحينما سئلت عن التعب الذي تجده في عملها أجابت:
انني أفضل حياتي في هذه الخدمة عن ثروة أمريكا ليس هناك أروع من أن تتمكن من مساعدة الذين يحتاجون اليك وليس لهم سواك.
عندما زار الرئيس محمد نجيب ملجا ليليان تراشر وكتب لها في دفتر التشريفات: العزيزة مس ليليان، لم يسعدني شيئا بقدر ما شاهدته اليوم حتى تصورت إني أحلم بجنة الإنسانية التي أتخيلها دائما حتى رأيتها اليوم حقيقة رائعة، فالعناية بالضعفاء من أطفال وأيتام وعجزة، بنين وبنات، رجال ونساء، تتجلى هنا بكل ما في معاني الإنسانية من قوة، فشكرا لمس ليليان ولجميع العاملين بهذه المؤسسة.
عطاء بلا حدود
كما زارها ايضا الرئيس جمال عبد الناصر وكتب لها: أكتب لك شاكرا وأريد أن أخبرك إن عملك مع الأيتام يقدره كل مواطن في هذا البلد وأتمنى لك استمرارية النجاح في خدمتك الإجتماعي.
توفيت ليليان هانت تراشر، 17 ديسمبر 1961، ولم ترزق بأولاد لكن عوضها الله بأن أعطاها 15 ألف طفل تولت رعايتهم على مدار خمسون عاما، من خدمتها وأصبحوا رجالاً وسيدات لهم حضورهم في المجتمع، واستحقت على ذلك عدة ألقاب منها أعظم إمرأة في مصر، أم الفقراء واليتامى، وقديسة أسيوط إلا أن لقبها الأوسع انتشاراً هو أم النيل.
ماتت ليليان هانت تراشر، وما زال الملجأ يقدم خدماته دون توقف، وتخرج منه أكثر من 25 ألف شخص، ومساحته 12 فدان، عبارة عن 3 ملاعب، 3 حمامات سباحة، 14 مبنى، منها مدرسة ابتدائي، بالإضافة إلى مباني السكن ومباني التدريب المهني والإدارة.
يقبل الملجأ الأطفال معلوم النسب من سن أيام، ومنذ دخولهم الملجأ يُنشأ لهم دفتر توفير، ويوضع فيه كل سنة مبلغًا ماليًّا يصل إلى ألف جنيه، يظل الأطفال في الملجأ إلى أن ينتهوا من التعليم سواء، كان تعليمًا متوسطًا أو جامعيًّا، ويُصرف له المبلغ حتى يعتمد على نفسه، وكذلك البنات يتم تجهيزهن، وتكاليف زواجهن، وكأنهن في بيت أبويهن ولا ينقصهن شيء؛ حيث يوجد لهن مبناهن الخاص بهن.
في ذلك الملجأ الكبير، والذي يسمونه البيت الكبير، يعلمون الصبيان الحرف والصناعات المختلفة، فيوجد في الملجأ ورشة للنجارة، وكذلك واحدة للحدادة، كما يوجد بها مزرعة للمواشي، وكذلك تعليم الصناعات المختلفة، مثل: السباكة، والكهرباء، فهم يعاملون الأطفال وكأنهم أولادهم الحقيقيون، حيث يعطوهم الحنان الكافي والمراعاة الكافية، كما يعلمونهم أساس الحياة والتعامل مع الآخرين، ويجعلوهم يعتمدون على أنفسهم؛ لكي يتخرجوا ويصبحوا مواطنين صالحين دون أن ينقصهم شيء.
قال عنها الكاتب الصحفي وعالم الأثار كمال الملاخ في رثائها ماتت الغريبة الحلوة القادمة من بعيد ولم يمت اسمها الذي ناداها به أكثر من 15 ألف طفل أصبحوا رجالا وسيدات خلال الـ 55 سنة الأخيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• ليليان تراشر أعظم العجائب المصرية
• سيرة ليليان تراشر