بأقلامهم
زينب الباز تكتب: لطيفة النادي.. امرأة فوق السحاب
قال نابليون بونابرت القائد العسكري الفرنسي الفذ، «لا توجد كلمة مستحيل إلا في قاموس الضعفاء»، هذا ما أمنت به الكابتن طيار لطيفة النادي، التي نجحت بمثابرتها وإعلانها التحدي
تغيير مفهوم الناس عن قدرات المرأة، كما غيرت القوالب والأنماط التي وضعها الناس لوظائف الرجال والنساء، فهي المرأة التي آمنت بقدراتها وقررت أن تحلق في السماء، ففتحت الأبواب أمام نساء العالم العربي لدخول عالم الطيران، وغرست فكرة أن المرأة قادة على صنع المستحيل شأنها شأن الرائدات من بنات جيلها هدى شعراوي وسهير القلماوي وغيرهم كثيرات.
ولدت لطفية النادي في 29 أكتوبر 1907 بالقاهرة لأب يعمل في المطبعة الأميرية وأم متفتحة تحلم بمستقبل أفضل لابنتها.
شغفت لطفية منذ طفولتها بفكرة الطيران، رغم عدم وجود مطار في القاهرة في ذلك الوقت، كان الطيران يمثل لها الحرية والفرص، في زمن افتقرت به حياة النساء العربيات إلى الفرص، فقد قالت بعد أول رحلة طيران لها تعلمت الطيران لأني أعشق الحرية ووصفت شعورها قائلة بمجرد أن أقلعت شعرت بأن الطائرة خفيفة، وبأنني أملك العالم بأسره، وشعرت بأن الحرية التي طالما حلمت بها بين يدي، لا يمكنني أن أصف السعادة التي شعرت بها، لم يكن هناك أي خوف، فقط سعادة خالصة.
عقبات وتحديات
طريق لطيفة النادي لم يكن مفروشا بالورود كما يتصور البعض، أذ واجهها الكثير من العقبات في سبيل تحقيق حلمها فبعد انتهاء دراستها «بالأمريكان كولدج»، كان من المتوقع أن تتزوج لطفية وتصبح ربة منزل كما هو سائد في ذلك العصر، ولكنها قرأت مقالا عن مدرسة للطيران تم افتتاحها حديثاً في القاهرة وذلك عام 1932 فقررت الالتحاق بهذه المدرسة، خاصة أن أنباء نجاح الأمريكية أميليا إيرهارت، التي تعد أول مرأة في العالم تقود طائرة من هاربور جريس في نيوفاوندلاند في رحلة إلى باريس على متن طائرة ذات محرك واحد، قد وصلت مصر، فأعلنت التحدي وأثبات أنها قادرة على تحقيق هذا الإنجاز رغم أنها لم تكن تعرف شيئا عن الطيران.
أعلنت لطفية النادي رغبتها في تعلم الطيران لكن طلبها قوبل بالرفض القاطع من قبل والدها مع بعض التحفظات من قبل والدتها.
لجأت لطفية إلى الكاتب الصحفي الراحل أحمد الصاوي صاحب العمود الصحفي الشهير «ما قل ودل» والذى كان ينشر بجريدة الأهرام وقالت له: عاوزة اتعلم طيران، كان رد الصاوي: انتي لسه صغيرة، ولازم موافقة أهلك، وما كان منها إلا أن أحضرت والدتها، وقالت الوالدة: "إن التحاق لطفية مشروط بعدم دفع مليم واحد للدراسة لأن والدها إن علم بالأمر، أو حدث لها أي مكروه هيقول أنت اللى قتلتيها.
أمراة لا تعرف المستحيل
سلكت المراة التي لا تعرف المستحيل كل الطرق ودقت كل الأبواب لتحقيق هدفها؛ إذ ذهبت لطفية إلى كمال علوي مدير عام مصر للطيران وقتها، وعرضت عليه الأمر ورحب بها بمدرسة الطيران لتكون فاتحة خير لالتحاق أُخريات؛ وفى نفس الوقت هي دعاية طيبة للمدرسة، وقال لها: تعملين في المدرسة وبالمرتب تسددين المصروفات، وبالفعل عينت عاملة تليفون وسكرتيرة بالمدرسة.
وكانت تحضر دروس الطيران مرتين أسبوعيا دون علم والدها، تعلمت الطيران مع زملاء لها على يد مدربين مصريين وإنجليز فى مطار ألماظة بمصر الجديدة، كانت دفعتها الدراسية مكونة من 33 رجلاً وهي المرأة الوحيدة.
عندما حصلت لطفية النادي على رخصة الطيران في 27 سبتمبر 1933 بعد 67 يوم فقط من التدريب، وعمرها 26 سنة كانت أول امرأة عربية تصبح طيار، وكذلك أول أمرأة في الشرق الأوسط وأول امرأة في أفريقيا، وتصدر إنجازها الصحف العالمية في ذلك الوقت.
حديث الصحافة
واحتفلت الصحف المصرية بهذا السبق وأصبحت لطفية النادي حديث الساعة بوصفها أول قائدة طيران في البلاد.
وكتب عنها الأستاذ سلامة موسى في "المجلة الجديدة" في عددها الصادر في يناير 1934 قائلا: "ولكن مصر حاربت هذه التقاليد ونجحت في محاربتها ... وأثبتت للعالم أن المرأة المصرية ليست قعيدة البيت .. وأن فيها من الإقدام والاقتحام ما هو جدير بإعجاب العالم... فإذا بالمرأة في مقدمة الصفوف... وها نحن نرى ثمرة التطور في لطفية النادي التي يشمخ كل مصري الآن برأسه افتخارا بها".
وكتب الأستاذ أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة بعددها الصادر في الشهر نفسه يقول:
"مَن كان يخطر بباله أن الآنسة لطفية بنت الخدر العربي، وذات الخفر المصري، تباري أساطين الطيران ذوي الماضي البعيد والمران الطويل والخبرة الواسعة وهي لم تقض في علاج هذا الفن غير ستة شهور، فكيف يقع في الظن أن تسبق سابقهم وتهبط الأرض قبله بدقيقة كاملة؟".
وأرسلت لها هدى شعراوي برقية تهنئة تقول فيها: "شرّفت وطنكِ، ورفعت رأسنا، وتوجت نهضتنا بتاج الفخر، بارك الله فيكِ".
وتحكي لطفية أن أباها لما علم بالأمر غضب منها ولم يقتنع بمهارتها إلا بعد أن اصطحبته في رحلة حول الأهرامات بالطائرة في رحلة تقول عنها لطفية إنها كانت الأجمل في حياتها.
في ديسمبر 1933 شاركت لطفية النادي في سباق طيران دولي من القاهرة إلى الإسكندرية، وبهذا السباق أصبحت لطفية النادي ثاني إمرأة في العالم تقود طائرة بمفردها تماماً بعد اميليا ايرهارت، وكانت لطفية أول من وصل إلى خط نهاية السباق، ولكنها لم تربح المركز الأول لأنها لم تعبر من احدى نقاط المراقبة، ولكنها حصلت على جائزة ترضية من الملك فؤاد قدرها 200 جنيه مصري، وقال لها: "هذه أول مرة يحدث في مصر هذا وأعطوها جائزة شرف قدرها 200 جنيهًا مصريًا".
لطيفة النادي فتحت الباب لبنات جنسها لخوض التجربة فلحقت بها دينا الصاوي، وزهرة رجب، ونفيسة الغمراوي، ولندا مسعود أول معلمة طيران مصرية، وبلانش فتوش، وعزيزة محرم، وعايدة تكلا، وليلى مسعود، وعائشة عبد المقصود، وقدرية طليمات.
لم تتوقف لطيفة عن المشاركة في مسابقات الطيران، وكان من بينها سباق دولي أقيم في مصر عام 1937 من القاهرة الى الواحات اشترك فيها 14 طيارًا وطيارة من مختلف جنسيات العالم، وجاء ترتيب لطفية في المرتبة "الثالثة" بين السيدات المشتركات، توالت إنجازات كابتن لطفية، أول كابتن طيار مصرية إلى أن تقاعدت عن الطيران بعد خمس سنوات فقط إذ تعرضت لحادث أدى إلى إصابة في عمودها الفقري توقفت التحليق في السماء، وعينت بمنصب سكرتير عام نادى الطيران المصري، بعدما ساهمت في تأسيسه، وإدارته بكفاءة عالية إلى أن هاجرت إلى سويسرا، بسبب التجاهل والنكران الذي لمسته في مصر وجعلها تشعر أنها سيدة منسية، على النقيض من ذلك منحتها سويسرا الجنسية تكريما لجهودها.
ذكرت هدى شعراوي زعيمة المرأة في ذلك الوقت في كتابها مذكرات هدى شعراوي الفصل الثالث والأربعون ترحيب الجميع بما حققته لطيفة النادى في حفل تكريمها الذي حضره صفوة رجال المجتمع وقتها، أن رجل الأعمال فؤاد باشا أباظة، مدير الجمعية الزراعية الملكية، قدم الآنسة لطفية النادي أول طيارة مصرية، وأشاد بجرأتها وشجاعتها، وعرج على ما ينتظر الطيران في مصر من مستقبل، ثم قدم للآنسة باقة من الزهور باسم الجمعية.
شراء طائرة
وفي هذه المناسبة دعت هدى شعراوي، المواطنين المصريين إلى الاكتتاب لشراء طائرة للفتاة المصرية الباسلة والطيارة الأولى «لطفية النادي» وقد اهتمت جريدة الأهرام بهذه الدعوة فكتبت في ٣٠ ديسمبر ١٩٣٣ تقول: «لقد كان نجاح الطيران مقرونًا بالاكتتابات الأهلية، كان ذلك في فرنسا فيما قبل الحرب، وفي تركيا، وفي إيران الجديدة، وفي تركيا الفتاة، واقتصدت معلمات اليابان جزءًا من مرتباتهن لشراء طائرتين … والمصريون والمصريات مطالبون جمعيًّا بالاكتتاب لشراء طائرة لطيارتهم الأولى والوحيدة لطفية النادي، ولا شك في أن أدنى ما تهديه أمة عظيمة كريمة، كالأمة المصرية، لفتاتها الطيارة هو طائرة».
كما احتفى بها الكاتب الكبير توفيق الحكيم بلطيفة النادي باعتبارها شرفت الدولة المصرية وقدمت النموذج الأمثل للمرأة العربية في أحدى مسرحياته عام 1935 التي أخرجتها حواء إدريس كما ذكرت في كتابها أنا والشرق الذي تناولت فيه قصة حياتها وقصة الحركة النسائية والوطنية في الشرق العربي، وما بذلته المرأة من جهود.
وفي عام 1996 تم انتاج فيلم وثائقي تناول قصة كفاح لطفية النادى المرأة الغير عادية بعنوان «الإقلاع من الرمل»، من إخراج وجيه جورج، وفي هذا الفيلم سُئلت عن السبب الحقيقى وراء رغبتها في الطيران، فقالت أنها كانت تريد أن تكون حرة، وفي عام 1997، حصل الفيلم على الجائزة الأولى للمجلس الأعلى للثقافة في سويسرا.
عاشت لطيفة النادي جزء كبير من حياتها فى سويسرا، رفضت أن تتزوج بعد أن وهبت حياتها للطيران الذي أمنت أمنت به وسلب روحها، وتوفيت عن عمر يناهز الخامسة والتسعين فى القاهرة عام 2002 بعد مسيرة حافلة قدمت نموذجا للفتيات المصريات الساعيات للتميز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• أنا والشرق، محمد أحمد الصاوي
• مذكرات هدى شعراوي
• موسوعة المراة العربية